مثال ذلك: المختلفان في مسالة الكلام؛ ليسا يتواردان على معنى واحد بالنفي والإثبات فإن الذي قال: هو مخلوق، أراد به: أن الكلام هو الحروف والأصوات في اللسان، والرقوم والكلمات في الكتابة؛ قال: وهذا مخلوق. والذي قال: ليس بمخلوق، لم يرد به الحروف والرقوم، وإنما أراد به معنى آخر؛ فلم يتواردا بالتنازع في الخلق على معنى واحد.
وكذلك في مسألة الرؤية فإن النافي قال: الرؤية إنما هي: اتصال شعاع بالمرئي، وهو لا يجوز في حق الباري تعالى. فلم يتوارد النفي والإثبات على معنى واحد؛ ألا إذا رجع الكلام إلى إثبات حقيقة الرؤية فيتفقان أولاً على أنها ما هي؟ ثم يتكلمان: نفياً وإثباتاً.
وكذلك في مسألة الكلام يرجعان إلى إثبات ماهية الكلام، ثم يتكلمان نفياً، وإثباتا؛ وإلا فيمكن أن تصدق القضيتان.
وقد صار أبو الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد ناظر في الأصول مصيب؛ لأنه أدى ما كلف به من المبالغة في تسديد النظر في المنظور فيه، وإن كان متعيناً: نفياً، وإثباتاً؛ إلا أنه أصاب من وجه. وإنما ذكر هذا في الإسلاميين من الفرق, وأما الخارجون عن الملة فقد تقررت النصوص والغجماع على كفرهم، وخطئهم. وكان سياق مذهبه يقتضي تصويب كل مجتهد على الإطلاق. إلا أن النصوص والإجماع صدته عن تصويب كل ناظر، وتصديق كل قائل.
وللأصوليين خلاف في تكفير أهل الأهواء، مع قطعهم بأن المصيب واحد بعينه؛ لأن التفكير: حكم شرعي، والتصويب: حكم عقلي؛ فمن مبالغ متعصب لمذهبه: كفر وضلل مخالفه، ومن متسائل متألف: لم يكفر.