للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حيث الفعل، وإفحام من حيث الكسر. ففرغ من ذلك كما قال الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} ١.

وابتدأ بإبطال مذاهب عبدة الكواكب على صيغة الموافقة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ٢ أي كما آتيناه الحجة كذلك نريه المحجة، فساق الإلزام على أصحاب الهياكل مساق الموافقة في المبدأ، والمخالفة في النهاية، ليكون الإلزام أبلغ، والإفحام أقوى، وإلا فإبراهيم الخليل عليه السلام لم يكن في قوله: {هَذَا رَبِّي} ٣ مشركا، كما لم يكن في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ٤ كاذبا. وسوق الكلام من جهة الإلزام، غير سوقه على جهة الالتزام. فلما أظهر الحجة وبين المحجة، قرر الحنيفية التي هي الملة الكبرى، والشريعة العظمى، وذلك هو الدين القيم.

وكان الانبياء من أولاده كلهم يقررون الحنيفية، وبالخصوص صاحب شرعنا محمد صلوات الله عليه، كان في تقريرها قد بلغ النهاية القصوى، وأصاب المرمى وأصمى٥. ومن العجب أن التوحيد من أخص أركان الحنيفية، ولهذا يقترن نفي الشرك بكل موضع ذكر الحنيفية: {حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ٦ - {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ٧.

ثم إن التثنية اختصت بالمجوس، حتى أثبتوا أصلين اثنين، مدبرين قديمين؛ يقتسمان الخير والشر، والنفع والضر، والصلاح والفساد، يسمون أحدهما: النور والآخر الظلمة. وبالفارسية: يزدان وأهرمن. ولهم في ذلك تفصيل مذهب.

ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين اثنتين:

إحداهما: بيان سبب امتزاج النور بالظلمة.

والثانية: بيان سبب خلاص النور من الظلمة، وجعلوا الامتزاج مبدأ، والخلاص معادا.


١، ٢، ٣ الأنعام آية ٨٣، ٧٥، ٧٦.
٤ الأنبياء آية ٦٣.
٥ أصمى المرء الصيد: رماه فقتله فكان مكانه وهو يراه، وأصله من السرعة والخفة.
٦ آل عمران آية ٦٧.
٧ الحج آية ٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>