للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حواسه شيء واحد، فسمعه هو بصره، وبصره هو حواسه، وإن ما قيل سميع بصير، لاختلاف التركيب، لا لأنهما في نفسهما شيئان مختلفان. وزعموا أن اللون هو الطعم، وهو الرائحة، وهو المحسة١، وإنما وجده لونا، لأن الظلم خالطته ضربا من المخالطة، ووجده طعما لأنها خالطته بخلاف ذلك الضرب، وكذلك القول في لون الظلمة، وطعمها، ورائحتها، ومحستها. وزعموا أن النور بياض كله، وأن الظلام سواد كله، وزعموا أن النور لم يزل يلقي الظلمة بأسفل صفحة منه، وأن الظلمة لم تزل تلقاه بأعلى صفحة منها.

واختلفوا في المزاج والخلاص فزعم بعضهم أن النور داخل الظلمة، والظلمة تلقاه بخشونة وغلظ، فتاذى بها. وأحب أن يرققها ويلينها، ثم يتخلص منها، وليس ذلك لاختلاف جنسهما، ولكن كما أن المنشار جنسه حديد، وصفحته لينة، وأسنانه خشنة، فاللين في النور، والخشونة في الظلمة، وهما جنس واحد، فتلطف النور بلينه حتى يدخل تلك الفرج، فما أمكنه إلا بتلك الخشونة، فلا يتصور الوصول إلى كمال وجود إلا بلين وخشونة.

وقال بعضهم: بل الظلام لما احتال حتى تشبث بالنور من أسفل صفحته، فاجتهد النور حتى يتخلص منه ويدفعه عن نفسه، فاعتمد عليه، فلجج٢ فيه، وذلك بمنزلة الإنسان الذي يريد الخروج من وحل وقع فيه، فيعتمد على رجله ليخرج فيزداد لجوجا فيه، فاحتاج النور إلى زمان ليعالج التخلص منه والتفرد بعالمه.

وقال بعضهم: إن النور إنما دخل أجزاء الظلام اختيارا ليصلحها ويستخرج منها أجزاء صالحة لعالمه، فلما دخل تشبثت به زمانا، فصار يفعل الجور والقبيح اضطرارا لا اختيارا، ولو انفرد في عالمه ما كان يحصل منه إلا الخير المحض، والحسن البحت. وفرق بين الفعل الاضطراري، وبين الفعل الاختياري.


١ أصل المحسة: آلة الحسن.
٢ لج في الأمر: لازمه وأبى أن ينصرف عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>