التي ذكرنا فيما سلف، وإما لأنه كان محسودا عند أهل زمانه، لكونه بسيط الفكر، واسع النظر، ساير القوى، وكانوا أولئك أصحاب أوهام وخيالات، فإنه يقول في موضع من كتابه "إن الأوائل منها تكونت العوالم، وهي باقية لا تدثر ولا تضمحل، وهي لازمة الدهر، ماسكة له، إلا أنها من أول، لا يوصف بصفة، ولا يدرك بنعت ونطق، لأن صور الأشياء كلها منه وتحته، وهي الغاية والمنتهى التي ليس فوقها جوهر هو أعظم منها، إلا الأول الواحد، وهو الأحد الذي قوته أخرجت هذه الأوائل، وقدرته أبدعت هذه المبادئ".
وقال أيضا: إن الحق لا يحتاج إلى أن يعرف ذاته، لأنه حق حقا بلا حق، وكل حق حقا فهو تحته إنما هو حق حقا إذ حققه الموجب له الحق، فالحق هو الجوهر الممد للطباع الحياة والبقاء، وهو أفاد هذا العالم بدءا وبقاء بعد دثور قشوره، وزكي البسيط الباطن من الدنس الذي كان فيه قد علق فيه. وقال: إن هذا العالم إذا اضمحلت قشوره وذهب دنسه, وصار بسيطا روحا بقي بما فيه من الجواهر الصافية النورانية في حد المراتب الروحانية، مثل العوالم العلوية التي بلا نهاية، وكان هذا واحدا منها، وبقي جوهر كل قشر ودنس وخبث، ويكون له أهل يلبسه، لأنه غير جائز أن تكون الأنفس الطاهرة التي لا تلبس القشور والأدناس، مع الأنفس الكثيرة القشور في عالم واحد، وإنما يذهب من هذا العالم ما ليس من جهة المتوسطات الروحانية، وما كان القشر والدنس عليه أغلب، فأما ما كان من الباري تعالى، بلا متوسط، أو كان من متوسط بلا قشر فإنه لا يضمحل. قال وإنما يدخل القشر على الشيء من غير المتوسطات، فيدخل عليه بالعرض لا بالذات، وذلك إذا كثرت المتوسطات، وبعد الشيء عن الإبداع الأول، لأنه حيثما قلت المتوسطات في الشيء كان أنور، وأقل قشورا ودنسا، وكلما قلت القشور والدنس كانت الجواهر أصفى، والأشياء أبقى.
ومما ينقل عن برقلس أنه قال: إن الباري تعالى عالم بالأشياء كلها: أجناسها، وأنواعها، وأشخاصها. وخالف بذلك أرسطوطاليس، فإنه قال: يعلم أجناسها