ولما حج الرشيد في سنة ست وسبعين ومائة بايع لابنه محمد بالعهد ولعبد الله بعده ولقّب محمدا بالأمين وعبد الله بالمأمون وكان المأمون أكبر سنّا وهمة وأرجح عقلا وعلما وتهدّيا إلى الأمور. وإنما قدّم عليه محمدا لأن أم محمد كانت أم جعفر زبيدة [٢٢ ب] بنت جعفر بن المنصور بنت عم الرشيد. فقدم ولدها تقربا إليها وشرط عليهما إن حدث به الأمر المحتوم أن تكون بغداد والعراق والحجاز واليمن والجبال وفارس بحكم الأمين وهو الخليفة وأن تكون الرىّ وطبرستان وخراسان والسند والترك بحكم المأمون ويكون ولىّ العهد للمسلمين. وكتب بذلك كتابا «١٣٥» وأشهد فيه أكابر أهل الإسلام ووجوه الكتّاب والقوّاد وسائر أركان الدولة وعلّقه في الكعبة فسقط من ساعته فقال الناس: هذا الأمر لا يتم «١٣٦» . وكان كما قالوا على ما سيأتي ذكره وشرحه.
وحين عقد البيعة لهما دخل إليه أعرابى «١٣٧» في غمار الناس فأنشده أبياتا يهنّئه فيها بتمام الأمر. وكان متكئا فاستوى جالسا وقال: يا أعرابى سمعت مستحسنا ثم اتهمتك منكرا، فإن كنت صاحب هذا الشعر فقل فيهما أبياتا، وأومأ إلى الأمين والمأمون، وكان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، فقال الأعرابي: ما أنصفتنى يا أمير المؤمنين. قال الرشيد: وكيف ذلك؟ قال الأعرابي: هيبة الخلافة وقهر البديهة وروعة الامتحان ونفور القوافي عن الرويّة. فقال المأمون: قد جعلنا حسن اعتذارك بدلا من امتحانك. فقال الأعرابي: الآن نفّست خناقى ببسطك لي وحديثك معى وأنشأ يقول:
بنيت بعبد الله بعد محمد ... ذرى قبة الإسلام فاخضر عودها [٢٣ أ]
هما طنباها بارك الله فيهما ... وأنت أمير المؤمنين عمودها
فقام الرشيد قائما لما لحقه من الطرب وقال: سل يا أعرابى قال: مائة ألف درهم «١٣٨» .
فقال الرشيد، يمازحه: أنقصنا منها شيئا. فقال الأعرابي: قد حططتك منها ألفا.