فقال له الرشيد: ما أقل هذه الحطيطة؟ فقال له الأعرابي: يا أمير المؤمنين قلت لي سل فسألت على قدرك ثم قلت لي حط فحططت على قدري. فقال الرشيد: أعطوه مائتي ألف لشعره ومائة ألف لحسن كلامه.
وحكى «١٣٩» إسحاق الموصلي قال: ما رأيت أكرم طبعا من الرشيد، دخلت يوما عليه فأنشدته: هذه الأبيات من شعرى:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصرى ... فذلك شيء ما إليه سبيل
أرى الناس خلّان الجواد ولا أرى ... بخيلا له حتى الممات خليل
ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال خيرا أن يقال منيل
عطائي عطاء المكثرين تكرما ... ومالي كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأى أمير المؤمنين جميل
فقال لي: لا تخف، للَّه درك وللَّه در أبيات تجيء بها ما أحكم أصولها وأحسن فصولها وأقل فضولها. ثم قال: أعطوا أبا محمد مائة ألف درهم. فقلت: يا أمير المؤمنين يحرم عليّ أخذ الجائزة. قال: ولم؟ قلت: لأنك مدحتني بأكثر مما مدحتك فكيف يحلّ لي أخذ الجائزة؟ وكلامك والله أحسن من شعرى فقال: وهذا [٢٣ ب] الكلام والله منك أحسن من شعرك ومن مدحى لك، أعطوه مائة ألف أخرى «١٤٠» .
فأحضرت في الحال عشرون بدرة فيها مائتا ألف درهم وسلمت إليّ. وكان الأصمعي حاضرا فتغيّر وجهه وعرف الرشيد منه ذلك فقال: يا أصمعى، أبو محمد تلميذك ومن بحرك يغترف وأنت شيخ الكلّ وأستاذهم. فقال: يا أمير المؤمنين ولكنه أحذق بصيد الدراهم منى. فضحك الرشيد وقال: أعطوا الأصمعي مائة ألف درهم فأحضرت وسلمت إليه. فقال الأصمعي:«لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» ٤: ١١ فضحك الرشيد وقال:
أعطوا الأصمعي مائة ألف أخرى.
وحكى إسحاق أيضا قال: كنّا يوما عند الرشيد في خلوة فدخل عليه الأصمعي وكان يعلّم ولديه الأمين والمأمون وكان يوما شديد الحر فقال له الرشيد: يا أصمعى