للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد تكلم الإمام ابن القيم بكلام ماتع على هذه القاعدة، بين فيه حكمة الرب تعالى في تفاوت العقوبات ومناسبة كل عقوبة للجرم الواقع، فقال (١): (فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شَرَع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس من بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقَتْل والجرح والقذت والسرقة؛ فأحْكم سبحانه وجوهَ الزّجرِ الرادعةِ عن هذه الجنايات غايةَ الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع؛ فلم يشرع في الكذب قَطعَ اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السّرقةِ إعدام النفس.

وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائِه وصفاتِه من حكمتِه ورحمتِه ولُطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقنع كلُّ إنسان بما آتاه مالكُه وخالقه؛ فلا يطمع في استلابِ غير حقِّه.

تفاوت العقوبات بحسب تفاوت الجنايات هو العدل والحكمة:

ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك.

ومن المعلوم أن النظرةَ المحرَّمةَ لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب؛ ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم، فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بدٌّ من تفاوت مراتب


(١) ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (٣/ ٣٣٨ - ٣٥٠) باختصار.

<<  <   >  >>