مع إدراكي أن الإعجاز البياني للقرآن الكريم يفوت كل محاولة لتحديده، ويجاوز مدى طاقتنا على مشارفة آفاقه الرحبة واجتلاء أسراره الباهرة، أتقدم في خشوع إلى الميدان الجليل، فأضع إلى جانب محاولات السلف، محاولتى المتواضعة في فهم هذا الإعجاز.
وسبق الالتفات إلى أن "الخطابي" لمح الإعجاز في "اللفظ في مكانه إذا أُبدِل فَسَدَ معناه، أوضاع الرونق الذي يكون منه سقوط البلاغة".
وهذه اللمحة الدقيقة، هي - كما قلت من قبل - محور فكرة عبد القاهر الجرجاني في النظم، ولعلها أيضاً تلتقي مع جانب من فكرتنا في الإعجاز البياني، ثم نختلف بعد ذلك في إدراك مغزاها ولمح أبعادها، وطريق الاحتجاج لها والاستدلال عليها.
لقد شُغل البلاغيون عن الإعجاز بمباحث بلاغية قدموها بمعزل عن المعجزة، لأنهم رأوا علوم البلاغة هي دلائل الإعجاز وسبيل فهمه. على حين نتعلم نحن البلاغة من هذا القرآن، ونخلص إليه لنتدبر أسرار بيانه المعجز. . .
* * *
ولعل أول ما لفتني إلى سر الحرف والكلمة، وقفتي أمام فواتح السور، وهي الحروف المقطعة التي افتتحت بها سِتُّ وعشرون سورة مكية، وثلاث من السور المدنية المبكرة.
وهذا هو المشهور في تسمية الفواتح، وإن كان البلاغي المصري "ابن أبي الإصبع" مؤلف بديع القرآن، قد صنف كتاباً عنوانه (الخواطر السوانح في أسرار الفواتح) وعنى بالفواتح أنواع الكلام في مفتتح السور القرآنية، وقد نسقها في عشرة أنواع أحدها حروف التهجي، أو ما نسميه الفواتح، والأنواع التسعة الأخرى هي: الثناء على الله تحميداً وتسبيحاً، والنداء، والجملة الخبرية،