وعاد الباقلاني فأكد المعنى، وأبْعَدَ فسّوى بين العربي الذي ليس في المرتبة العليا من الفصاحة والأعجمي، من حيث لا يتهيأ له "كما لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية من العجم والترك وغيرهم، أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا بأن يعلموا أن العرب - البلغاء - قد عجزوا عن ذلك. . .
"وكذلك نقول: إن من كان من أهل اللسان العربي إلا إنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام ووجوه تعرف اللغة وما يعدونه فصيحاً بليغاً بارعاً من غيره، فهو كالأعجمي في إنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن إلا بمثل ما بينا أن يعرف بع الفارسي الذي بدأنا بذكره. وهو - أي العربي غير البليغ - ومن ليس من أهل اللسان، سواء". ص ١٧١ وفي هذا الكلام نظر، من حيث أن العرب في عصر المبعث فصحاء، وهم وإن تفاوتوا في مراتب البلاغة والاقتدار على فن القول، وتميز منهم خاصة من خطباء بلغاء وشعراء فحول، فما كانوا بحيث يغيب عنهم جيد القول من رديئة، وعاليه من هابطه، أو يفوتهم حِسُّ لغتهم في ذوقها وبيانها. شأنهم في هذا شأن "أم جندب": لم تُعرف لها مشاركة في قول الشعر ولا كان لها حظ منه، ولكنها بحسها اللغوي المرهف سليقة وطبعاً، استطاعت أن تميز مواضع الضعف والقوة في قصيدتي امرئ القيس وعلقمة بن عبدة الفحل، في وصف الخيل.
فعامة العرب في عصر المبعث، مهما يتفاوتوا في البلاغة والاقتدار على فن القول، كانت لهم هذه الحاسة النقدية التي أرهفتها سليقة لغوية أصلية لم تفسد. وأرى الباقلاني قد خلط هنا بين الفصاحة وبين القدرة البلاغية: فالفصاحة عامةٌ في العرب قبل أن يخرجوا من جزيرتهم ويخالطوا غيرهم من الأمم مخالطة لغوية. وقد اعتمد علماء اللغة ما سُمع من عرب الجاهلية وعصر المبعث، حجةً في الفصاحة، دون أن يفوت اللغويين في تدوينهم معجم