والذين بادروا منهم إلى الإيمان بالمعجزة، لم يكونوا جميعاً من صناع القول المشهود لهم بالمرتبة البلاغية العليا، وإنما أدركوا بسليقتهم أن هذا القرآن معجز.
والذين تأخر إسلامهم، كانوا في الغالب ممن صَدُّوا عن سماع القرآن أو صُدوا عنه، ثم لما أصغوا إليه آمنوا به، وليسوا جميعاً شعراء وخطباء.
أريد لأقرر أن القرآن لن يفرض إعجازه البياني من أول المبعث. على هؤلاء الذين سبقوا إلى الإيمان به فحسب، بل فرضه كذلك على من ظلوا على سفههم وشركهم، عناداً وتمسكاً بدين الآباء ونضالاً عن أوضاع دينية واقتصادية واجتماعية لم يكونوا يريدون لها أن تتغير. وقد أمعنوا في إيذاء المصطفى واضطهاد من آمنوا برسالته وما كان لديه - صلى الله عليه وسلم - ما يواجه به الوثنية الباغية في عنفوان شراستها، سوى كلمات الله يتلوها فتزلزل صروح الوثنية وكأنها تريد أن تنقض.
وفي الخبر أن من طواغيت قريش وصناديد الوثنية العتاة من كانوا يتسللون في أوائل عصر المبعث خفية عن قومهم، ليسمعوا آيات هذا القرآن دون أن يملكوا إرادتهم:
روى "ابن إسحاق" في السيرة أن أبا سفيان بن حرب الأموي، وأبا جهل ابن هشام المخزومي، والأخنس بن شريق الزهري، خرجوا ذات ليلة متفرقين على غير موعد إلى حيث يستمعون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ويتلو القرآن في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، ولا أحد منهم يعلم بمكان صاحبيه. فباتوا يستمعون إليه حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: