ولقد كان هؤلاء الأعلام من التابعين يهتمون بالكتاب ويتتبعون أخباره ونصوصه ويدرسونها دراسة مرتكزة إلى ما أثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الأبرار. وكانوا يفسرون القرآن في ضوء ذلك آية آية، مستعينين بما جد أيضا في عصرهم من معارف واستفاض من علوم وفلسفة وآداب.
المرحلة الثالثة: وفي ضوء هذه المرحلة صار التفسير علما قائما بذاته له أصوله ومناهجه. ولقد أطلت فيه مدارس متعددة، فكان التفسير بالمأثور، والتفسير بالمعقول، والتفسير الذي أخذ المنحى البياني واللغوي، والتفسير الذي اعتنى بالقصص والأخبار، حتى صار كل من برع في فن من فنون المعرفة انطبع تفسيره بما برع فيه وبرز على غيره من الفنون.
ولقد ازدهت المنافسة في هذا الباب وارتفعت صدارتها وكان من قطافها علماء أجلاء ظهروا في هذا المجال العلمي الرفيع. فبرز أبو حيان في تفسيره "المحيط" واهتم كثيرا بالإعراب وقواعد اللغة وكل ما له علاقة بأصولها ومشتقاتها. وظهر الفخر الرازي باهتماماته الدقيقة بالإتجاهات الفلسفية والنزعات الكلامية وأقوال الحكماء وتحليلاته الفكرية السامية. وظهر الجصاص والقرطبي وابن العربي واتجاههم الحار في عرض الأحكام الشرعية وأقوال الفقهاء فيها وعنايتهم بالبحث عن الأدلة ومناقشتها.
وبرع ذوو العناية بالتاريخ والقصص في ميدانهم هذا فتوسعوا في تفاسيرهم بعرض النواحي التاريخية وسوق أخبار الأولين والسلف الصالح وإيراد القصص والأخبار كالثعالبي والخازن وغيرهما ...
كما جنح المتصوفة إلى نزعة الترهيب والترغيب فغلبت في تفاسيرهم وتميزت باستخراج المعاني الروحية والإشارات الدالة عليها بما يتفق مع ميولهم ورغائبهم مثل ابن عربي والفاشاني والقشيري وسواهم.
ولقد تحققت لنا على مدى الزمن الطويل من جهود هؤلاء ثروات فكرية خالدة، تعبر بكثير من الوضوح عما لهذا الكتاب العظيم من مكانة في نفوس المسلمين جميعا.