فتأمل هذا الفصل؛ فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفي أحوال أهلها، وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة؛ فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه؛ كما يفهمون طلبها على غير وجهه؛ فيمدحون ما لا يمدح شرعاً، ويذمون ما لا يذم شرعاً. وفيه -أيضاً- من الفوائد: فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى، وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق، ولا الغنى أفضل بإطلاق، بل الأمر في ذلك يتفصل؛ فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى صاحبه مذموماً، وكان الفقر أفضل منه، وإن أمال إلى إيثار الآجلة؛ بإنفاقه في وجهه، والاستعانة به على التزود للمعاد؛ فهو أفضل من الفقر، والله الموفق بفضله» . قال أبو عبيدة: ينبغي للمؤمن العاقل الفهم عن الله -تعالى- وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتشبه بالسلف الصالح في أخذ المال والتمتع بملذات الدنيا، ولا يتشبه بالبهائم التي لا تعقل. الخامسة: وأخيراً، من أجمع ما وقفتُ عليه في هذه المسألة مبحث عزيز، فيه تأصيل وتدليل، ينصر (التفصيل) في (التفضيل) ، وضعه العلاّمة أحمد بن نصر الداودي في آخر كتابه «الأموال» (ص ١٧١- ١٧٨- ط. المغربية، أو ص ٣٤١-٣٥٢- ط. دار السلام- القاهرة) وعليه مؤاخذة، سيتعقبه المصنف (السخاوي) في كلامه الآتي، وصدر كلامه بقوله على المسألة: «أتى من النص في ذكر الكفاف، وذكر الفقر والغنى، ما فيه لمتأمله من العلماء بيان وشفاء أن الفضل في الكفاف، وأن الفقر والغنى محنتان من الله، وبليتان يبلو بهما أخيار عباده ليبدي صبر الصابرين، وشكر الشاكرين، وطغيان المبطرين، واستكثار الأشرين. وإنما فيه إشكال على الجاهلين والمقصرين، ومن لم يتأمله من الراسخين. يقول الله -تعالى-: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: ٨٣] ، وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: ٤٣] ، وقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ =