كل دار وامتدت إلى كل نفس ونسجت على كل وجه خيوطاً من الكآبة والغم لا سبيل إلى سترها: لم تَنجُ منها السياسة ولا الاقتصاد ولا الأخلاق؛ فالشركات الأجنبية تستعمر أسواقنا، والأقمشة الأجنبية تستعمر أجسامنا، والأفكار الأجنبية تستعمر نفوسنا، وقد سُلبنا كلَّ ما ندفع به عن أنفسنا البلاء، حتى الألسنةَ التي تنطق بالتحذير من الشر المستطير!
هذا قرن النور والحياة يفيض بهما على الشعوب جميعاً إلا نحن، فكأن شؤم طالعنا وسوء حظنا حوّل النورَ علينا ظلاماً والحياةَ موتاً، فنحن أسوأ الناس في أفضل العصور وأشقى البشر في أسعد الأيام. وماذا ينفعنا أن يرتفع البنيان في نيويورك إلى السماء مئة طبقة ونَبيت في كوخ لا يمنع عنّا قَطْرَ السماء؟ وماذا يفيدنا أن تبلغ ثروة روكفلر الملايين ولا يملك غنيُّنا إلا دَيْناً يعجز عن قضائه وشقاء يهيم في فضائه؟ وماذا يعنينا أن يطير الناس في الهواء ويغوصوا في أعماق الماء إذا كنا لا نقدر على السير في الأرض ولا على قطع الجداول؟
لقد كان هذا القرن نوراً وحياة، ولكن على غيرنا، أما نحن فما نبصر فيه إلا الظلمة ولا نرى فيه إلا قبوراً مفتَّحة تنتظرنا. إننا نلبس كما يلبسون ونتكلم كما يتكلمون، ولكنك إن كشفت عن بواطننا وأعلنت سرائرَنا وجدتنا كالمُحتضَر، يقوم ويقعد ويصيح ويهتف ويأمر وينهى كأشد ما يكون في حياته، ولكن الدهر ما مَدَّ له في قوته إلا ليقصر من أجله.
إن هذه حال إن دامت واستمرت أوشكت عاقبتُها أن تكون هلاكنا ودمارنا، أو أن نندمج في شعب آخر فلا يُعرَف لنا أصل