في مثل هذا اليوم، منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن دارت مع الفلك وغاصت في أعماق الأبدية، وفي هذا المكان المقفر الذي يقف فيه اليوم مئات الألوف من الناس عراةً مكشوفي الرؤوس: في عَرَفة، في حجّة الوداع، وقف «سيد قريش» محمد صلى الله عليه وسلم للمرة الأخيرة، ليودّع تلك البقاع التي أودعها سر طفولته ومطلع نجمه، وهذه الأمة الذي ضحى لأجلها بنفسه ووقف لسعادتها حياتَه، وقف ليقرر قاعدة الإخاء الكامل والمساواة التامة والسلام العام، فقرر وأوضح وكان له ما أراد.
إن الصوت الذي يصيح:«لبَّيكَ اللهمّ لبيك»، فتهتز من صياحه بطحاء مكة ويرنّ صداه في جوانب العالم، لَدليلٌ قاطع على تلك المساواة وذلك الإخاء. وإن هذا الجمع الهائل الذي يرتدي غنيُّه وفقيرُه، رفيعُه ووَضيعُه، ثوباً واحداً، وينادي بصوت واحد ويقف في مكان واحد، لَحجّةٌ بالغة على تلك الإنسانية وذلك العدل. وإن هذه التحية التي يتبادلها الناس مُنصرَفَهم من
(١) في «فتى العرب» بتاريخ ٧/ ٥/١٩٣٠ (٨ ذي الحجة ١٣٤٨)، وهي منشورة في كتاب «الهيثميات».