ذهبت إلى منزلي فراراً من الناس، فلم يستقرّ بي المقام فيه حتى خرجت منه مَوْهناً، وكانت ليلة ظلماء لا نور فيها إلا هذه النجوم المتلألئة في سمائها الصافية، ولا صوت إلا صوت قدمي على بلاط شارع بغداد الذي أسير فيه مغرّباً، لا أعرف لي قصداً ولا غاية، وقد تاه بصري في دجى الليل وفكري فيما وراء المادة.
كدت أسير إلى الصباح ما دمت لا أفكر في شيء وأفكر في كل شيء، لولا أن استوقفني شعور برهبة اعتراني، فعادت إليّ نفسي، فبصرت ما حولي فإذا أنا بين الأموات! وإذا أنا قد قطعت هذه الأسلاك الشائكة التي تفصل شارع بغداد عن مقبرة الدَّحْداح ودخلت المقبرة، فتمثلت لي شواهدها الماثلة أشباحاً مخيفة، فمُلئتُ رعباً وفزعاً، وخانتني رجلاي فسقطت مكاني، وأحسست بشيء سقط عليه رأسي فكان له كالوسادة، وإذا هو قبر!
وأُحسّ حركة، فألتفتُ فأرى القبر ينشقّ فيخرج منه ميت قد تقطع كفنه، ويقترب مني فأجمد في مكاني ولا يبقى حياً مني إلا
= لها يوم صدورها. إنها كانت حَجَراً، أو قُل «حصاة» أُلقِيَت في بركة ساكنة. ألا ترون الحصاة -على صِغَرها- ترسم على وجه البركة دائرة بعدها دائرة أوسع منها، ثم تتعاقب الدوائر حتى تبلغ حَفافي البركة كلها؟ " (الذكريات ١/ ٤٠٣). ورسائل الإصلاح هذه أربع، غلبت الشدة في اللفظ والأسلوب على أكثر مادتها، حتى لقد وصَفَها في ذكرياته فقال: "الناس يبدؤون باللين وأنا بدأت الكتابة بالعنف، وهم يكتبون للفنّ والأدب وأنا بدأت للنقد والإصلاح؛ بدأت برسائل الإصلاح فهِجْت على نفسي حرباً لا طاقة لي بها، حرباً ما لي فيها نفع ولا لي في غنائمها أمل" (الذكريات ٢/ ٥) (مجاهد).