الثالث: أنهم أعلم وأدرى بتقدير المصالح والمفاسد، والترجيح بينها، من غيرهم، إذ إن لهم من البصيرة في الدين ما ليس لغيرهم.
وعلى ما تقدم: فمِن إعطاء الحقوق لأهلها ألا يُتقدم عليهم بقول ولا فتيا، ولا اجتهاد ولا نظر.
ولا يعني ذلك القول بعصمتهم، وعدم الزلل منهم: كلا، فما زال العلماء يخطئون ويزلون، لكن لا يعني خطأ العالم استباحة عرضه، وأكل لحمه فإن ذلك من الظلم الذي سببه الطيش والجهل، بل الواجب أن يرد عليه خطأه وأن تحفظ له سابقته.
ولُيعلم أن التنقص من العلماء إنما هو مكيدة شيطانية، يلقيها الشيطان على لسان بعض الناس، ثمرتها الخبيثة: نزع ثقة الأمة في علمائها ومصلحيها، وفتح باب الولوج للرؤوس الجهال الذين أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك أن الناس لابد لهم من رأس يرجعون إليه إما في أمر دينهم، وإما في أمر دنياهم، أو فيهما معا، فإذا كان الرأس ضالا؛ ضل بضلاله الكثير، وفسد بسببه أمر الناس في دينهم ودنياهم.
فليحذر الصالحون من مغبة الكلام في أعراض العلماء ولا يكونوا معاول هدم للأمة.
وأما العلماء: فإن عليهم واجبا كبيرا لو لم يكن من شأنه إلاّ أنهم قائمون في الأمة مقام نبيها - صلى الله عليه وسلم - لكفى، وإذا كان واجبهم وقت السعة عظيم؛ فهو في وقت الفتن أشد وأعظم لالتباس الأمور واشتباهها واختلاف الأحوال وتغيرها.
وليعلموا أن من أعظم أسباب الفتن وقوعا وانتشارا: كتمانهم لما عندهم من العلم، إما خوفا ومداهنة، وإما شحاً وبخلا. إذ إن كليهما مفض إلى ظهور المنكرات وانتشار البدع وذهاب الدين، ومن ثم سفك الدماء واستحلال المحارم، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)).
وعليهم أن يكونوا رجال عامة، فيصبروا أنفسهم للناس، ويخفضوا