.. لكن الأنصار لم يكونوا كذلك، إذ إنما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصرته فى مدينتهم وديارهم، أما وهو فى بدر فذلك ما لم تقتضه نصوص المعاهدة، فأراد صلى الله عليه وسلم استشارتهم فيما هو محدق به وبهم من الخطر، ليكتشف رأيهم فيما يعد خارجاً عن بنود المعاهدة، فكرر طلب الاستشارة قائلاً:"أشيروا على أيها الناس" ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: أجل. فقال: لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذى بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر فى الحرب، صدق فى اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
... فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال:"سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين. والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم"(١) .
... وهكذا تمخضت المشاورة هذه برأى صائب سديد، وافقت ما قدره الله تعالى، لنبيه وعباده المؤمنين، واراه إياه، حتى كأنه يرى نتيجة ما هو قادم عليه رأى العين.
(١) السيرة النبوية لابن هشام ٢/٢٧٢ نص رقم ٧٢٨، وينظر: زاد المعاد لابن قيم الجوزية ٣/١٧٣، وعيون الأثر لابن سيد الناس ١/٢٤٧، ٢٤٨، وإمتاع الأسماع للمقريزى ص٨١ – ٨٣.