(٢) من ذلك ما اشتهر عن تلك الكتب التي وضعها زعماء نحلتي "القاديانية" و"البهائية" لتكون دستورًا دينيًّا لهم كالقرآن، وقد لفقوها تلفيقًا ركيكًا من آيات قرآنية وكلمات عامية، وبدلوا فيها أصول الإسلام وفروعه، وادعوا فيها لأنفسهم النبوة أو الألوهية، ولكن أتباعهم لم يجسروا أن يذيعوا تلك الكتب وشمس العلم طالعة، فآخفوها -كما يخفي السنور سلحته- إلى أن يجيء وقت يفشو فيه الجهل بالعلوم والآداب، وتستعد فيه النفوس لقبول آمثالها. فلينتظروا آخر الدهر. (٣) ذلك مثل مسيلمة الدجال، فقد زعم أنه يوحى إليه بكلام مثل القرآن، وما صنع شيئًا إلا أنه كان يعمد إلى آي من القرآن فيسرق أكثر ألفاظها ويبدل بعضًا، كقوله: "إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر" أو جيء على موازين الكلمات القرآنية بألفاظ سوقية ومعاني سوقية، كقوله: "والطاحنات طحنًا والعاجنات عجنًا والخابزات خبزًا" وهكذا لم يستطع وهو عربي قح أن يحتفظ بأسلوب نفسه، بل نزل إلى حد الإسفاف، وأتى العبث الذي يأتيه الصبيان في مداعبتهم وتفكههم بقلب الأشعار والأغاني عن وجهها، ولا يخفى أن هذا كله ليس من المعارضة في شيء، بل هو المحاكاة والإفساد، وما مثله إلا كمثل من يستبدل بالإنسان تمثالًا لا روح فيه، وهو على ذلك تمثال ليس فيه شيء من جمال الفن، وإنما المعارضة أن تعمد إلى معنى من المعاني فتؤديه نفسه بأسلوب آخر يوازي الأصل في بلاغته أو يزيد. ومن يحاول ذلك في المعاني القرآنية فإنما يحاول محالًا، والتجربة أصدق شاهد. بل من يحاول أن يجيء بمثل أسلوب القرآن في معاني أخرى لا يتحرى فيها الصدق والحكمة، فقد طمع في غير مطمع، ولذا كان من طرق التحدي للعرب أن طولبوا بعثر سور مثله ﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [سورة هود: ١٣]. هذا؛ والذي نفهمه في أمر مسيلمة هو ما فهمه الأديب الرافعي: أنه لم يرد أن يعارض القرآن من ناحية الصناعة البيانية، إذ كانت هذه الناحية أوضح من أن يلتبس أمرها عليه، أو أن يستطيع تلبيسها على أحد من العرب، وإنما أراد أن يتخذ سبيله إلى استهواء قومه من ناحية أخرى ظنها أهون عليه وأقرب تأثيرًا في نفوسهم، ذلك أن رأى العرب تعظم الكهان في الجاهلية، وكانت عامة أساليب الكهان من هذا السجع القلق الذي يزعمون أنه من كلام الجن، كقولهم "يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله -البخاري في المناقب: إسلام عمر" فكذلك جعل يطبع مثل هذه الأسجاع في محاكاة القرآن؛ ليوهمهم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد ﷺ كأنما النبوة والكهانة ضرب واحد، على أنه لم يفلح في هذه الحيلة أيضًا، فقد كان كثيرون من أشياعه يعرفونه بالكذب والحماقة، ويقولون: إنه لم يكن في تعاطيه الكهانة حاذقًا، ولا في دعواه النبوة صادقًا، وإنما كان اتباعهم إياءه كما قال قائلهم: "كذاب ربيعة أحب إلينا عن صادق مضر".