للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى.

١ - ليس في القرآن كلمة مقحمة ولا حرف زائد زيادة معنوية:

دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها "مقحَمة" وفي بعض حروفه إنها "زائدة" زيادة معنوية. ودع عنك قول الذي يستخف كلمة "التأكيد" فيرمي بها في كل موطن يظن فيه الزيادة، لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون، ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا


= حتى روي عن سيد البلغاء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أنه قال لجرير بن عبد الله البجلي: "يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف" هكذا أحفظه، ولا يحضرني الآن تخرنجه، وما سمعنا أحدًا يوصي بهذا الإطناب الذي عده المؤلفون فضيلة ثانية تقابل الإيجاز، وإنما هو إحدى شعبتيه: الاختصار المفهم أو الإطناب المفحم. ولو سميناه فضيلة ثانية تقابله لخشينا أن تكون هذه المقابلة وحدها رخصة في التحليل من قيوده وتسامحًا في الإكثار الذي جاء ذمه بكل لسان، حتى قال : " … وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة أساوئكم أخلاقا الترثارون المتشدقون المتفيقهون" رواه أحمد وابن حبان وغيرهما عن أبي ثعلبة. فلا وربك إنما هي فضيلة واحدة تطلب من المتكلم في كل مقام، ويؤخذ بها في سعة التفصيل كما يؤخذ بها في ضيق الإجمال، بل لعلها في مقام التفصيل أكد طلبًا وأصعب منالًا. فالكلام الطويل إن حوى كل جزء منه فائدة تمس إليها الحاجة في المواضع ولا يسهل أداء تلك القاعدة بأقل منه كان هو عين الإيجاز المطلوب، وإن أمكن أداء الأغراض فيه كاملة بحذف شء منه أو بإبداله بعبارة أخصر منه كان هو حشوًا أو تطويلًا معيبًا. والكلام القصير إن وفى بالمقاصد الأصلية والتكميلية المناسبة في الحال كان هو التوسط المطلوب، وإلا كان بترًا أو تقصيرًا معيبًا.
وليس الإيجاز قاصرًا على جانب الإجمال كما زعموا حتى بنوا عليه ما بنوا، وحتى أخرجوا منه مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ [الآية ١٦٤ من سورة البقرة]، وجعلوها من باب الإطناب بحجة أنه يمكن إيجازها بهذه العبارة: "إن في ترجيح وقوع أي ممكن كان لا على وقوعه لآيات للعقلاء - مفتاح العلوم" وأنت فهل عهدت عربيًّا قط بليغًا أو غير بليغ تكلم بهذا التعبير الفلسفي الجاف القلق الذي افترضه السكاكي مقياسًا للمساواة في معنى الآية، كلا، إنك لو رجعت إلى ما تكلم به الناس في آيات الله الكونية تفصيلًا أو إجمالًا لرأيت كلامًا عربيًّا صحيحًا أطول من هذا أو أقصر، ولرأيت الآية الكريمة هي أوجز كلامًا وأحكم نظامًا في بابها من التفصيل، كما أن قوله تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الآية ١٠١ من سورة يونس] هو أوجز كلامًا في بابه من الإجمال.
قلنا: إن فضيلة الإيجاز بمعناه الصحيح هو الوسط المعتدل، وهو الفضيلة الوحيدة التي تواصى بها البلغاء في كل مقام بحسبه، غير أنه ليس للإنسان ما تمنى، فالمثل الكامل وإن تطاولت إليه أعناق الناس وتفاوتوا في طلبه قربًا وبعدًا، لا يستطيع أحد منهم أن يأتي على غايته، وإنما أتى عليها القرآن الحكيم، فهو المثل الأعلى في حسن الإيجاز، كيف لا وهو حد الإعجاز.

<<  <   >  >>