ذلك آية على بأسهم الطبيعي من أنفسهم، وعلى شعورهم بأن عجزهم عنهم عجز فطري عتيد، كعجزهم عن إزالة الجبال، وعن تناول النجوم من السماء، وأنهم كانوا في غنى بهذا العلم الضروري عن طلب الدليل عليه بالمحاولات والتجارب.
على أنهم لو كانوا لم يعرفوا عجزهم عنه بادئ ذي بدء، وإنما أدركهم العجز بعد شعورهم بأنه في مستوى كلامهم، لكان عجبهم إذًا من أنفسهم: كيف عيوا به وهو منهم على طرف الثمام؟ ولجعلوا يتساءلون فيما بينهم أي داء أصابنا فعقد ألسنتنا عن معارضة هذا الكلام هو ككل كلام؟ أو لرجعوا إلى بيانهم القديم قبل أن يصيبهم العجز فجاءوا بشيء منه في محاذاته، ولكنهم لم يجيئوا فيه بقديم ولا جديد، وكان القرآن نفسه هو مثار عجبهم وإعجابهم، حتى إنهم كانوا يخرون سُجَّدًا لسماعه من قبل أن تمضي مهلة يوازنون فيها بينه وبين كلامهم، بل إن منهم من كان يغلبه هذا الشعور فيفيض على لسانه اعترافًا صحيحًا:"ما هذا بقول بشر".
"الشبهة الرابعة" شبهة من قد يظن أن القرآن إن كان معجزًا فليس إعجازه من ناحيته اللغوية؛ لأنه لم يخرج عن لغة العرب في مفرداته ولا في قواعد تركيبه:
فإن قال: قد تبينتُ الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزًا، وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن سرًّا من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم. ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من مظان هذ السر؛ لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية: فمن حروفهم رُكِّبَتْ كلماتُه. ومن كلماتهم أُلفت جمله وآياته، وعلى مناهجهم في التأليف جاء تأليفه، فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟ وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟