سورة البقرة نموذجًا على تماسك بنيان القرآن وإحكامه:
أما إن طلبت شاهدًا من العيان على صحة ما أصلناه في هذا الفصل من نظام الوجدان في السور على كثرة أسباب اختلافها، وأما إن أحببت أن نريك نموذجًا من السور المتجمعة كيف التأمت منها سلسلة واحدة من الفكر تتلاحق فيها الفصول والحلقات، ونسق واحد من البيان تتعانق فيه الجمل والكلمات، فأي شيء أكبر شهادة وأصدق مثالًا من سورة نعرضها عليك هي أطول سور القرآن كافة، وهي أكثرها جمعًا للمعاني المختلفة، وهي أكثرها في التنزيل نجومًا، وهي أبعدها في هذا التنجيم تراخيًا.
تلك هي سورة البقرة التي جمعت بضعًا وثمانين ومائتي آية، وحوت فيما وصل إلينا من أسباب نزولها نيفًا وثمانين نجمًا، وكانت الفترات بين نجومها تسع سنين عددًا (١).
[الهدف من اختيار السورة: رسم خط سيرها، وإبراز وحدة نظامها المعنوي]
اعلم أنه ليس من همنا الآن أن نكشف لك عن جملة الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء هذه السورة الكريمة بعضها ببعض، فتلك دراسة تفصيلية لها محلها من كتب التفسير. ذلك ولو نشاء لأريناك في القطعة الواحدة منها أسبابًا ممدودة عن أيمانها وعن شمائلها تمتُّ بها إلى الجار ذي القربى والجار الجنب، في شبكة من العلائق يحار
(١) ففيها ذكر تحويل القبلة، وذكر صيام رمضان، وذكر أول قتال وقع في الإسلام فنزل بسببه قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ [الآية: ٢١٧] وكل أولئك كان نزولهن في أوائل السنة الثانية من الهجرة. وفيها تلك الآية الخاتمة التي نزلت في آخر السنة العاشرة من الهجرة، وهي آخر آية من القرآن بإطلاق: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [الآية: ٢٨١] وفيها ما بين ذلك.