أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ذلك ينقض فرض التعدد من أساسه، ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار. فكأننا بها تقول لنا: إن حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها، كلا، فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي في الناقص، أما الكمال التام المطلق الذي هو قوام معنى الإلهية، فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنيْنيَّة؛ لأنك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدمًا على كل شيء وإنشاءً لكل شيء: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وحققت سلطانًا على كل شيء وعلوًّا فوق كل شيء: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضتَ؛ إذ تجعل كل واحد منهما سابقًا مسبوقًا، ومنشئًا منشأً. ومستعليًا مستعلًى عليه. أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما؛ إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقًا ولا مستعليًا. فأنى يكون كل منهما إلهًا، وللإله المثل الأعلى؟!
أرأيت كم أفدنا من هذه "الكاف" وجوهًا من المعاني كلها شاف كاف؟
فاحفظ هذا المثال وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظم الحكيم حرفًا حرفًا.
[الإيجاز بالحذف مع الوضوح والطلاوة]
"وبعد" فإن سر الإيجاز في القرآن لا يقف عند الحد الذي أشرنا إليه، من اجتناب الحشو والفضول بتة، وانتقاء الألفاظ الجامعة المانعة التي هي -بطبيعتها اللغوية- أتم تحديدًا للغرض، وأعظم اتساعًا لمعانيه المناسبة، لا، بل إنه كثيرًا ما يسلك في إيجازه
=باطل بالمشاهدة، إذ ترى العالم قد وجد غير فاسد واستمر غير فاسد، ونراه بجميع أجزائه وعلى اختلاف عناصره وأوضاعه -علوًّا وسفلًا وخيرًا وشرًّا- يؤدي وظيفة جسم واحد تتعاون أعضاؤه بوظائفها المختلفة على تحصيل غرض واحد. وهذه الوحدة في نظام الأفعال دليل على وحدة الفاعل المنظم لها جل شأنه.