وأنت فقد تسمع بعض المبتدئين في تذوق جمال القرآن والبحث عن منابع جماله يتساءلون: ما سر تلك الحال النفسية التي يجدها تالي القرآن وسامعه من طراوة وتجدد في نشاطه مع كل مرحلة منه، حتى لا يعرف الملل مهما أمعن السير فيه؟ فنبئهم أن تلك الظاهرة العجيبة لها في القرآن منابع جمة قد أشير قبل إلى طرف منها "فيما تقدم لنا من الحديث عن خاصة القرآن الصوتية، ص ١٠٩" وهذه الخاصة التي نشير إليها فيها منبع آخر أعمق وأغرز، غير أنه لا يقدرها حق قدرها إلا من نظر في كلام البلغاء ووقف على مبلغ افتنانهم في أساليبهم ومبلغ افتنانهم في أغراضهم، ثم جاء ليتدبر هاتين الناحيتين من نظم القرآن. فهناك يرى نفسه أمام نهاية لم يجاوز البلغاء بدايتها، إذ يرى أنه لا ينتقل فيه من خطوة إلى خطوة إلا استعرض في الخطوة التالية من مذاهب المعنى وألوان الأسلوب جديدًا إثر جديد. فكيف يعرف الملل سبيلًا إلى قلبه مع دوام هذه النظرة والتجديد؟ كل امرئ يستطيع أن يجرب نفسه حين يطول به الوقوف أمام منظر واحد جميل، هل يجد لديه من هزة الاستحسان في هذا الاستمرار ما يجده لو اعترض سلسلة من المناظر الرائعة قد صنفت فيها ضروب من الفوائد والمتع، ثم جعلت تمر به منوعة في أبدع تنسيق وأحسن تقويم؟ اللهم، لا. فذلك كذلك.