للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

راغبين إلى الله في الهدى إليه، وإنا إن شاء لله لمهتدون.

ظاهرة الوحي وتحليل عوراضها:

لا تحسبن أننا في هذه المرحلة الثالثة سنضرب في بيداء تيهاء، أو أننا سيترامى بنا السير إلى شقة بعيدة وسفر غير قاصد. كلا، فلن نخرج ببحثنا عن دائرة محدودة نراها مظنة للسر الذي نطلبه، وذلك بدراسة الأحوال المباشرة التي كان يظهر فيها القرآن على لسان محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.

وكلنا نعرف تلك الظاهرة العجيبة التي كانت تبدو على وجهه الكريم في كل مرة حين ينزَّل عليه القرآن، وكان أمرها لا يخفى على أحد ممن ينظر إليه. فكانوا يرونه قد احمر وجهه فجأة وأخذته البُرَحاء حتى يتفصد جبينه عرقًا، وثقل جسمه حتى يكاد يرُضُّ فخذه فخذ الجالس إلى جانبه وحتى لو كان راكبًا لبركت به راحلته، وكانوا مع ذلك يسمعون عند وجهه أصواتًا مختلطة تشبه دويَّ (١) النحل (٢) .. ثم لا يلبث أن تُسرَّى عنه تلك الشدة فإذا هو يتلو قرآنًا جديدًا محدثًا.

فمن شاء أن يبحث عن مصدر هذا القرآن، فها هنا أقرب مظانه، ففيها فليحصر الباحثون بحوثهم، ولينشد طلاب الحق ضالتهم، وأين تلتمس الأسباب الصحيحة لأثر ما إن لم تلتمس حيث يظهر ذلك الأثر، وحيث يدور وجوده وعدمه؟

فلننظر الآن في هذه الظاهرة: هل كانت شيئًا متكلفًا مصنوعًا وطريقة تحضيرية يستجمع بها الفكر والروية؟ أم كانت أمرًا لا دخل فيه للاختيار؟ وإذا كانت أمرًا غير اختياري فهل كان لها في داخل النفس منشأ من الأسباب الطبيعية العادية، كباعثة النوم، أو من الأسباب الطبيعية الشاذة، كاختلال القوى العصبية؟ أم كانت انفعالًا بسبب خارجي منفصل عن قوى النفس؟

وإن نظرة واحدة نلقيها على عناصر هذه الظاهرة لتهدينا إلى أنها لا يمكن أن تكون صناعة وتكلفًا، وبخاصة لو تأملت تلك الأصوات المختلطة التي كانت تسمع عند


(١) هذه الأوصاف كلها ثابتة في الأحاديث الصحيحة عن الشيخين وأبي داود والترمذي وغيرهم.
ورواه الترمذي عن عمر بن الخطاب، ك/ تفسير القرآن، ب/ ومن سورة المؤمنون "٣٠٩٧".
(٢) رواه البخاري عن عائشة ك/ الشهادات، ب/ تعديل النساء بعضهن بعضًا "٢٤٦٧"، ومسلم عن عائشة، ك/ التوبة، ب/ في حديث الإفك وقبول توبة القاذف "٤٩٧٤".

<<  <   >  >>