الرزق الناعم عيشة الكدح والعناء، فألزمهم الله ما التزموا، وضرب عليهم الذلة والمسكنة.
وهنا محض الحديث لذكر المخالفات والعقوبات، فذكر أنهم باءوا بغضب من الله؛ لأنهم كفروا بآيات الله وقتلوا النبيين، "غير أنه استثنى المؤمنين منهم من هذا الغضب" وتمردوا على أوامر التوراة جملة حتى أُرغموا عليها، ثم تولوا عنها بعد ذلك حتى صاروا جديرين بأن ينزل بهم ما نزل بأهل السبت لولا فضل الله عليهم؛ وأنهم تباطأوا في تنفيذ أمر نبيهم، وبلغ بهم الجهل بمقام نبوته أن ظنوا في بعض تبليغه عن ربه أنه هازل فيه غير جاد ..
حلقة الاتصال بين القسمين الأول والثاني "٧٤":
وأراد القرآن أن يصل حاضرهم بماضيهم فانظر كيف وضع بينهما حلقة الاتصال في هذه الآية التي ختم بها القسم الأول: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ فقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ كلمة حددت مبدأ تاريخ القسوة ولم تحدد نهايته، كأنه بذلك وضعت عليه طابع الاستمرار وتركته يتخطى العصور والأجيال في خيال السامع، حتى يظن أن الحديث قد أشرف به على العصر الحاضر، ثم لم يلبث هذا الظن أن ازداد قوة، بصيغة الجملة الاسمية في قوله: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ دون أن يقول: فكانت كالحجارة.
ثم انظر كيف كان انتهاؤه إلى وصف قلوبهم بهذا الوصف توطئةً لتغيير الأسلوب فيهم، فإن من يبلغ قلبه هذا الحد من القسوة التي لا لين فيها يصبح استمرار الخطاب معه نابيًا عن الحكمة، ويصير جديرًا بصرف الخطاب عنه إلى غيره ممن له قلب سليم. وهكذا سينتقل الكلام من الحديث معهم في شأن سلفهم إلى الحديث معنا في شأنهم أنفسهم.