فلقد راه يعمد -بعد حذف فضول الكلام وزوائده -إلى حذف شيء من أصوله وأركانه التي لا يتم الكلام في العادة بدونها، ولا يستقيم المعنى إلا بها، ولقد يتناول بهذا الحذف كلماتٍ وجملًا كثيرة متلاحقة ومتفرقة في القطعة الواحدة، ثم تراه في الوقت نفسه يستثمر تلك البقية الباقية من اللفظ في تأدية المعنى كله بجلاء ووضوح، وفي طلاوة وعذوبة، حتى يخيل إليك من سهولة مسلك (١) المعنى في لفظه أن لفظه أوسع منه قليلًا.
فإذا ما طلبتَ سر ذلك رأيته قد أودع معنى الكلمات أو الجمل المطوية في كلمة هنا وحرف هناك، ثم أدار الأسلوب إدارة عجيبة وأمر عليها جَنْدَرة البيان بيد صَنَاع، فأحكم بها خلقه وسواه. ثم نفخ فيه من روحه، فإذا هو مصقول أملس، وإذا هو نير مشرق، لا تشعر النفس بما كان فيه من حذف وطي، ولا بما صار إليه من استغناء واكتفاء، إلا بعد تأمل وفحص دقيق.
لا نكران أن العرب كانت تعرف شيئًا من الحذف في كلامها، وترى ذلك من الفضيلة البيانية متى قامت الدلائل اللائحة على ذلك المحذوف، ولو كان من أجزاء الجملة ومقوماتها. فإذا قيل للعربي: أين أخوك؟ قال: في الدار. وإذا قيل له: من في الدار؟ قال: أخي. ولو قال: أخي في الدار، لعد ذلك منه ضربًا من اللغو والحشو. لكن الشأو الذي بلغه القرآن في هذا الباب -كغيره من أبواب البلاغة- ليس في متناول الألسنة والأقلام، ولا في متناول الأماني والأحلام.
(١) هذه كلمة تمثيلية بها أن نصور هذا الأثر البياني في مثال من الصناعات اليدوية. ذلك أنك ترى الخياط الماهر ينتفع باليسير من البز فيجعل منه حلة حسنة، مقدرة على الجسم تقديرًا، بل إنها لسهولة مسلك الأعضا فيها تحسبها ضافية. بينما غيره لا يحسن الانتفاع بهذا القدر ولا بأكثر منه، فيخرجه لباسًا ضيقًا حرجًا. ذلك مثل صناعة الإيجاز القرآني بالقياس إلى كلام الناس.