والقوم معترفون ضمنًا بوجود هاتين المرتبتين في كلام العوام، إذ قالوا: إن مرتبتي الاختصار المخل والتطويل الممل ليستا من البلاغة في شيء فإذا لم تكونا من كلام البلغاء كانتا البتة من كلام غير البلغاء وإلا فكلام من تكونان؟! وإذًا فلا تصلح المعاني الأولية ولا العبارات العامية مقياسًا منضبطًا للوسط المفروض. هذا وقد نشأ من قياسهم التوسط بالمقدار الذي تؤدى به المعاني الأولية في لسان العوام -بعد تسليم كونه وسطًا- أن جعلوا الفضيلة البيانية في هذا الباب ماثلة أبدًا طرف النقص أو طرف الزيادة. وذلك عكس ما بنيت عليه قاعدة الفضائل من تبوئها مكانًا وسطًا بين الأطراف "ولقد تعجب إذا رأيتهم يرجعون فيدخلون المساواة في كلام الرجل البليغ إذا دعاه إليها داع، كأن يكون كلامه مع العامة ثم تزداد عجبًا إذا رأيتهم يدخلونها في القرآن نفسه، وهو ما علمت خطاب للعامة وللخاصة على السواء، ويمثلونها بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [الآية ٤٣ من سورة فاطر] على أن في هذه الكلمة إيجازًا بالحذف على اصطلاحهم نفسه، إذ المعنى لا يحيق ضرر المكر وعاقبته". لهذا كله رأينا أن نضع التقسيم وضعًا آخر نرد فيه الفضيلة إلى نصابها من الحد الوسط، ونرجع فيه الذم إلى الطرفين، وذلك يجعل المقياس هو المقدار الذي يؤدى به المعنى بأكمله، بأصله وحليته على حسب ما يدعو إليه المقام من إجمال أو تفصيل؛ بغير إجحاف ولا إسراف. هذا القدر الذي من نقص عنه أو زاد عده البلغاء حائدًا عن الجادة بقدر ما نقص أو زاد، هو الميزان الصحيح الذي لك أن تسمي طرفيه بحق تقصيرًا أو تطويلًا، وأن تسميه هو بالمساواة أو القصد أو التوسط أو التقدير أو ما شئت فسمه. ونحن قد سميناه أيضًا باسم "الإيجاز" مطمئنين إلى صحة هذه التسمية، إذ رأينا حد الإيجاز ينطبق عليه، فما الإيجاز إلا السرعة والتخفيف في بلوغ الحاجة بالقدر الممكن، فالذي يسرع فوق الطاقة لا يبلغك حاجتك فيكون مجحفًا مخلًّا، والذي يبطئ حيث تمكن السرعة لا يكون إلا مسرفًا مملًّا. ورأينا الناس ما زالوا يتواصدون بهذه الوجازة في البيان ويجعلون خير الكلام ما قبل ودل،=