للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رجل أعلم مني بالشعر لا برَجَزِه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته … الحديث (١) رواه عن ابن عباس، وقال: صحيح على شرط البخاري.

نعم، إن كنت لا تفرق بين كلام وكلام فهذه شهادةٌ حسبُك من شهادة، وناهيك أنها شهادة أهل اللغة أنفسهم، بل شهادة الأعداء لعدوهم.

وإذا لم تر الهلال فسلم … لأناس رأوه بالأبصار

وأما إن كنت قد أوتيت حظك من معرفة فروق الكلام والمَيْز بين أساليبه فاقرأ ما شئت من خطب العرب وأشعارها، وحكمها وأمثالها، ورسائلها ومحاوراتها، متتبعًا في ذلك عصور الجاهلية والإسلام على اختلاف طبقاتها، ثم افتح صفحة من هذا الكتاب العزيز وانظر ماذا ترى؟

أسلوب عجب، ومنهج من الحديث فذ مبتكر، كأن ما سواه من أوضاع الكلام منقول، وكأنه بينها على حد قول بعض الأدباء: "وضع مرتجل" لا ترى سابقًا جاء بمثاله، ولا لاحقًا طبع على غِراره، فلو أن آية منه جاءتك في جمهرة من أقوال البلغاء


(١) للحديث بقية، وهي أن أبا جهل ألح على الوليد، وقال له: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. فقال الوليد: دعني أفكر. فلما فكر قال: هذا سحر يأثره عن غيره، وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [الآيات من سورة المدثر: ١١ وما بعدها]. فانظر تصوير القرآن للجهد العنيف الذي بذله الرجل في إصدار حكمه الثاني، حيث يقول: إنه فكر وقدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، ومعنى هذا كله أنه كان يقاوم فطرته، ويستكره نفسه على مخالفة وجدانه، وأنه كان في حيرة وضيق بما يقول .. وأخيرًا استطاع أن يقول ما قال نزولًا على إرادة قومه. وانظر الفرق بين هذا الحكم المصطنع وبين حكم البديهة العربية في قوله أول مرة: إنه يعلو وما يُعلى، وأنه يحطم ما تحته.

<<  <   >  >>