للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فكذلك المتنافسون في حلبة البيان يعمد كل منهم إلى الغرض من الطريق التي يرضاها، وعلى الوجه الذي يستمليه من نفسه، ثم يقع بينهم التماثل أو التفاضل على قدر ما يوفون من حاجة البيان أو ينقصون منها، وإن اختلفت المذاهب التي انتحاها كل منهم.

هب -إذًا- المدعوين لمعارضة القرآن فيهم الأكفاء والأنداء لنبي القرآن في الفطرة والسليقة العربية، أو من هم أكمل منه فيها، أو هبهم جميعًا دونه في تلك المنزلة. فأما الأعلون فسيجيئون على وفق سليقتهم بقول أحسن من قوله. وأما الأنداد فسيجيئون بشيء مثله. وأما الآخرون فلن يكبر عليهم أن يقاربوا ويجيئوا بشيء من مثله (١)، وشيء من هذه المراتب الثلاث (٢) لو تم لكان كافيًا في رد الحجة وإبطال التحدي.

ستقول: بل أختار الواقع، وهو أن العرب على اختلاف مراتبهم في البيان لم يرتفعوا إلى طبقة البلاغة المحمدية، وأزعم أن هذا القصور الذاتي الذي قعد بهم عن مجاراته في عامة كلامه هو الذي قعد بهم عن معارضة قرآنه. وإذًا لا يكون هذا العجز حجة لكم على قدسية الأسلوب القرآني كما لم يكن حجة عندكم على قدسية الأسلوب النبوي.

فنجيب: أما أن محمدًا كان هو أفصح العرب، وكان له في هذه الفضيلة البيانية المقام الأول بينهم غير مزاحم، فذلك ما لا نماري -بل لا نمتري- فيه نحن ولا أحد ممن يعرف العربية، غير أننا نسأل ما مبلغ هذا التفاوت الذي كان بينهم وبينه؟ أكان مما يتفق مثله في مجاري العادات بين بعض الناس وبعض في حدود القوة البشرية، أم كان أمرًا شاذًّا خارقًا للعادة بالكلية؟


(١) لا تنس ما قررناه في الفرق بين هذه الطبقة والتي قبلها ص ٧٨.
(٢) غر أن المرتبة الأولى مسكوت عنها في القرآن الكريم استقصارًا لهممهم، واكتفاءً بتعجيزهم عما بعدها.

<<  <   >  >>