الذي أحس به من ذلك معنى يتجمجم في الصدر لا أحسن تفسيره ولا أملك تعليله. وما زالت النفس بعد هذا وذاك نزاعة إلى درس تلك الخصائص والمزايا التي استأثر القرآن بها عن سائر الكلام، وكان فيها سر إعجازه اللغوي. فهل من سبيل إلى عوض شيء من ذلك علينا لتطمئن به قلوبنا، ونزداد إيمانًا إلى إيماننا؟
نقول: أما الآن فقد والله طلبت منا جسيمًا، وكلفتنا مرامًا بعيدًا لمثله انتدب العلماء والأدباء من قبلنا وفي عصرنا، فحفيت من دونه أقلامهم، ولم يزيدوا إلا أن ضربوا له الأمثال، واعترفوا بأن ما خفي عليهم منه أكثر مما فطنوا له، وأن الذي وصفوه مما أدركوه أقل مما ضاقت به عباراتهم، ولم تقف به إشاراتهم.
ونحن، وقد أفضت إلينا النوبة من بعدهم، هل تحسب أننا سنسلك سبيلًا غير سبيلهم فنزعم أننا في هذه العجالة سنبرز لك سر الإعجاز جملة؟ كلا، ولا استقراء ما كشفه الناس من جوانبه، كلا، ولا استقصاء ما نحسه نحن من تلك الجوانب. وإنما نريد أن نصور لك بعض تلك الخصائص التي تلاقينا من كتاب الله كلما سمعناه أو تلوناه وتدبرناه. لعلك واجد في القليل منها ما لا تجده في الكثير مما يعده الناس، كأن زادك الناس من ذلك أنواعًا رجونا أن نزيدك من النوع الواحد إقناعًا وانتفاعًا.