للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يبلغ الواحد منهم بعمله غاية أمله، وإنما يصل كما قلنا إلى كمال نسبي "بقدر ما يحيط به علمه، وما يؤديه إليه إلهامه في الحال" أما الوفاء بالمعنى حق وفائه بحيث لا يخطئه عنصر منه ولا حلية من حلاه ولا يتضاف إليه عرض غريب عنه يعد رقعة في ثوبه، ولا ينقلب فيه وضع من أوضاعه يغض من حسن تقويمه، وبحيث لا سبيل فيه إلى نقض أو اقتراح جديد؛ فذلك أمر لا يستطيع أن ينتحله رجل اكتوى بنار البيان، فضلًا عن أن ينحله لإنسان غيره.

وآية ذلك أنك تراه حين تعقب كلام نفسه في الفَيْنَة بعد الفينة يجد فيه زائدًا يمحوه، وناقصًا يثبته؛ ويجد فيه ما يهذب ويبدل، وما يقدم أو يؤخر، حتى يسلك سبيله إلى النفس سويًّا. ولعله لو رجع إليه سبعين (١) مرة لكان له في كل مرة نظرة. وكلما كان أنفذ بصرًا وأدق حسًّا، كان أقل من ذلك قناعة وأبعد همًّا؛ إذ يرى وراء جهده غاية هي المثل الأعلى الذي يطمح إليه ولا يطاوعه، والكمال البياني الذي يتعلق به خياله ولا يناله ﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ (٢).

هذا حظ الكلام البليغ عند قائله، فما ظنك بناقديه ومنافسيه؟

هذا؛ وهو يعمد إلى غاية واحدة، فكيف لو عمد معها إلى الغاية الأخرى، وحاول أن يضع هذه الثروة المعنوية في لفظ قاصد؟ وأنى يكون له ذلك وهو سجين هذه الفطرة الإنسانية التي لا تقرب به من أحد طرفي الطريق إلا بمقدار ما تبعد به عن الطرف الآخر؟

ولئن ظفرت بأحد وُفِّق لتقريب تيك الغايتين إلى حد ما في جملة أو جملتين، فتربص به كيف يكون أمره بعد ذلك. وانظر كيف يدركه الكلام والإعياء وفترة الطبع


(١) كما يروى عن زهير في تهذيب قصائده التي كان يسميها "الحوليات".
(٢) سورة الرعد: الآية ١٤.

<<  <   >  >>