للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فانظر الآن استطاعت هذه الأسباب على تضافرها أن تنال شيئًا من استقامة النظم في السور المؤلفة على هذا النهج؟

أما العرب الذي تحداهم القرآن بسورة منه فلقد علمت لو أنهم وجدوا في نظم سورة منها مطمعًا لطامع، بله مغمزًا لغامز، لكان لهم معه شأن غير شأنهم. وهم هم.

وأما البلغاء من بعدهم فما زلنا نسمعهم يضربون الأمثال في جودة السبك وإحكام السرد بهذا القرآن حين ينتقل من فن إلى فن.

وأما أنت فأقبل بنفسك على تدبر هذا النظم الكريم لتعرف بأي يد وضع بنياته؟ وعلى أي عين صنع نظامه؟ حتى كان كما وصفه الله ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ (١).

اعمد إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد وما أكثرها في القرآن، فهي جمهرته -وتنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة، ثم ارجع البصر كرتين: كيف بدئت؟ وكيف ختمت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت؟ وكيف تلاقت أركانها وتعانقت؟ وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها ووطئت أولاها لأخرها؟ ..

وأنا لك زعم بأنك لن تجد البتة في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به أكانت هذه السورة قد نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتى. ولسوف تحسب أن السبع الطول (٢) من سورة القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة، حتى يحدثك التاريخ أنها كلها أو جلها (٣) قد نزلت نجومًا. أو لتقولن: إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن


(١) سورة الزمر: الآية ٢٨.
(٢) وإذا كانت هذه السور على طولها وكثرة نجومها لا يبدو عليها انفصال النظم، فما ظنك بما دونها إلى سور المفصل؛ حيث جرى التنجيم حتى في بعض القصار منها، كالضحى، واقرأ، والماعون، التي نزلت كل واحدة منها مفرقة على نجمين.
(٣) هذا الترديد ناظر إلى اختلاف المفسرين في سورة الأنعام، ومذهب الجمهور أنها نزلت جملة واحدة، وقد روى الطبراني وغيره ذلك عن ابن عباس موقوفًا عليه، وروى عن أبي بن كعب مرفوعًا بسند فيه ضعف على أنه لو صح ما ذهب إليه الجمهور في هذه السورة لكانت من جملة الشواهد على اتحاد طريقة النظم في المنجمات وغيرها؛ لأن نظام الانتقال بين المعاني في سورة الأنعام مثله في السور المتفق على تنجيمها، سواء.

<<  <   >  >>