ومن طالت مزاولته لأساليب الكلام وتذوقه لطعومه حتى رسخت فيه ملكة التمييز بين الجيد منه والرديء وجد من نفسه أهلية هذا الحكم، إن لم يكن على نحو من الاستدلال المنطقي، فعلى ضرب من الاستحسان الفقهي، ولا سيما إن كان ممن بقيت في عروقهم قطرات من الدم العربي، وفي نفوسهم أثارة من الحاسة العربية، فمن أخطأه وجدان هذا الحسن الإجمالي في موضع ما من القرآن فلا يلومن إلا نفسه، ولا يعجلن بالحكم قبل أن يأخذ أهبته. وليذكر دائمًا أنه بمقياس ما يجده نحو أسلوب القرآن من استحسان أو توقف إنما يختبر ما في مزاجه اللغوي من صحة أو اعتلال، وما في دراسته اللغوية من نقص أو كمال. وأنه ليس بأذواق القاصرين من المولدين أمثاله تختبر لغة القرآن، كيف وقد درج أهلها الذين سجدوا لبلاغته. وكان فيهم الحكم الذي ترضى حكومته هذا. ولكم وقف علم التشريح عن إدراك سر الخلق في بعض الأعضاء الباطنة لعدم الاهتداء لوظيفتها. فهل وسع أحدًا من علماء التشريح إلهيين أو طبيعيين أن يحكموا بخلوها عن الحكمة والفائدة؟ كلا، فإنهم لما بهرتهم عجائب الصنعة في ستر أجزاء البدن لم يسعهم في القليل الذي جهلوه إلا أن يعترفوا على الجملة بأن له البتة حكمة لم يكشفها العلم، ثم لا يلبث أن يكشفها لمن أعانته همة البحث وأيده التوفيق.