للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنفسها من غير تضاد فيجعلها تتعاون في أحكامها بسوق بعضها إلى بعض مساق التنظير أو التفريع، أو الاستشهاد أو الاستنباط، أو التكميل أو الاحتراس، إلى غير ذلك. وربما جعل اقتران معنيين في الوقوع التاريخي، أو تجاور شيئين في الوضع المكاني، دعامة لاقترانهما في النظم، فيحسبه الجاهل بأسباب النزول وطبيعة المكان خروجًا وما هو بخروج، وإنما هو إجابة لحاجات النفوس التي تتداعى فيها تلك المعاني. فإن لم يكن بين المعنيين نسب ولا صهر بوجه من هذه الوجوه ونحوها، رأيته يتلطف في الانتقال من أحدهما إلى الآخر إما بحسن التخلص والتمهيد. وإما بإمالة الصيغ التركيبية على وضع (١) يتلاقى فيه المتباعدان، ويتصافح به المتناكران.

وهذه كلها وجوه حسنة لو نظر إليها بين آحاد المعاني لأغنى بعضها عن بعض في إقامة النسق.


(١) ولقد يعرض في هذا الوجه اللغوي أسرارًا دقيقة لو سئل المرء البيان عن وجه الحسن فيها لعجز عن وصفه، بل لو سئل أين موضع الوصل منها لصعب عليه تحديده بقاعدة علمية. على أنه لو تناسى تلك الألقاب الاصطلاحية والأسئلة الفضولية وخلى نفسه ووجدانها ثم اتصل بهذه المواضع تلاوة أو استماعًا لما شعر بينها بشيء من الخروج أو الانتقال ينبو عنه الذوق أو يتعثر فيه السمع، بل يحس بينها بروح الاتصال وحلاوة الانتقال من قبل أن يهتدي لناحية محدودة أو علة معينة.
ومن طالت مزاولته لأساليب الكلام وتذوقه لطعومه حتى رسخت فيه ملكة التمييز بين الجيد منه والرديء وجد من نفسه أهلية هذا الحكم، إن لم يكن على نحو من الاستدلال المنطقي، فعلى ضرب من الاستحسان الفقهي، ولا سيما إن كان ممن بقيت في عروقهم قطرات من الدم العربي، وفي نفوسهم أثارة من الحاسة العربية، فمن أخطأه وجدان هذا الحسن الإجمالي في موضع ما من القرآن فلا يلومن إلا نفسه، ولا يعجلن بالحكم قبل أن يأخذ أهبته. وليذكر دائمًا أنه بمقياس ما يجده نحو أسلوب القرآن من استحسان أو توقف إنما يختبر ما في مزاجه اللغوي من صحة أو اعتلال، وما في دراسته اللغوية من نقص أو كمال. وأنه ليس بأذواق القاصرين من المولدين أمثاله تختبر لغة القرآن، كيف وقد درج أهلها الذين سجدوا لبلاغته. وكان فيهم الحكم الذي ترضى حكومته هذا. ولكم وقف علم التشريح عن إدراك سر الخلق في بعض الأعضاء الباطنة لعدم الاهتداء لوظيفتها. فهل وسع أحدًا من علماء التشريح إلهيين أو طبيعيين أن يحكموا بخلوها عن الحكمة والفائدة؟ كلا، فإنهم لما بهرتهم عجائب الصنعة في ستر أجزاء البدن لم يسعهم في القليل الذي جهلوه إلا أن يعترفوا على الجملة بأن له البتة حكمة لم يكشفها العلم، ثم لا يلبث أن يكشفها لمن أعانته همة البحث وأيده التوفيق.

<<  <   >  >>