للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيهم رجل استوقد لهم نارًا يهتدون بضوئها، فلما أضاءت ما حوله لم يفتح بعض القوم أعينهم لهذا الضوء الباهر، بل لأمر ما سُلبوا نور أبصارهم وتعطلت سائر حواسهم عند هذه المفاجئة. فذلك مثل النور الذي طلع به محمد (١) في تلك الأمة على فترة من الرسل، فتفتحت له البصائر المستنيرة هنا وهناك، لكنه لم يوافق أهواء المستكبرين


=يصفهم بالختم الكلي على القلوب والحواس.
نعم، يمكن تقرير كلام المفسرين على وجه صحيح إذا ضممنا إليه ضميمة. ذلك بأن نقول: إن المثل الأول يصور حال المنافقين في بواطنهم، وهو الأمر الذي يشاركون فيه سائر الكفار. والمثل الثاني يصور حالهم في ظواهرهم، وهو الأمر الذي يتقلب عندهم بتقلب الدواعي؛ لأن تقلبهم إنما هو الظاهر لا الباطن. غير أن هذه الدعوى أيضًا محل نظر، إذ ما يدرينا، لعل نوع الكفر الذي يبطنه المنافق نوع خاص يتقلب فيه قلبه بالشك والتردد، وأن هذا الاضطراب الذي نشاهده على حركاته الظاهرة في أقواله وأعماله إنما هو صورة الاضطراب النفسي الذي يحس به هو في دخيلته بخلاف النوع الأول، وهو كفر المجاهرين، فهو طبيعة واحدة مصممة، حسبما تشهد به وحدة آثاره.
(١) وهذا أيضًا غير ما ذكره المفسرون فقد جعلوا مستوقد النار مثلًا "للمنافق الذي تكلف النطق بكلمة الإسلام خداعًا، فلم ينتفع بها إلا يسيرًا في دنياه، ثم قضى أجله وأفضى إلى عمله، فإذا هو في الظلمات والخسران المبين". هكذا اعتبروا الضمائر المجموعة في قوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ .... ﴾ إلخ، عائده إلى ﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ بمراعاة معناه، بعد أن عادت إلى الضمائر المفردة بمراعاة لفظه.
ونحن لا نزعم بطلان هذا التأويل، ولا ننكر إساغة اللغة له. ولكن الوجه الذي عرضناه ها هنا في شرح المثل يجمع إلى صحته العقلية واللغوية أنه مستنبط من النظم القرآني نفسه. ونحسبه مع ذلك أقرب لأسلوب القرآن وأليق بجزالته. فإن لم يكنه فليكن أحد الوجوه التي يحتملها القرآن.
أما كيف استنبطنا هذا المعنى من النظم فإليك بيانه:
لقد نظرنا إلى المثلين فرأينا الأسلوب فيهما يتجه اتجاهًا متوازيًا؛ إذ وجدنا في صدر كل منهما حديثًا عن شيء مفرد، وفي عجز كل منهما حديثًا عن جماعة. ثم نظرنا إلى المثل الثاني فرأينا الضمير المجموع فيه ليس راجعًا إلى مرجع الضمير المفرد، بل هو راجع باتفاق المفسرين إلى أمر مفهوم من فحوى الكلام هو القوم الذين نزل عليهم الصيب "ومعلوم أن هذه التشبيهات المركبة التي ينظر فيها إلى مقابلة المجموع بالمجموع لا يعني فيها بالمقابلة اللفظية الأحادية لأبين ما قبل الكاف وما يليها على الترتيب: بل ربما يكون الاختلاف بينهما كما هنا أمرًا مطلوبًا للبلغاء في وجيز الكلام يقصدون به التنبيه من أول الأمر على ما سيحدثون في التشبيه من طي وتقديم وتأخير، والتنبيه على أن المشبه به ليس هو مدخول الكاف وحده، وإنما هو قصة متعددة الفصول، هذا المدخول أحد فصولها. ذلك ليبقى السامع محتفظًا بانتباهه وتشوقه إلى تمام الكلام الذي به يظهر له التطابق بين طرفي التشبيه، وبه يمكنه رد كل شيء إلى شبهه -هذا الضرب في أسلوب القرآن كثير، منه قوله تعالى ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ [١٧١: ٢] وقوله: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ﴾ [٢٤: ١٠]، وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [١٩: ٢]. =

<<  <   >  >>