وضرب مثلًا للمترددين المخادعين بقوم جاءتهم السماء بغيث منهمر في ليلة ذات رعود وبروق. فأما الغيث فلم يلقوا له بالًا، ولم ينالوا منه نيلًا. فلا شربوا منه قطرة، ولا استنبتوا به ثمرة، ولا سقوا به زرعًا ولا ضرعًا. وأما تلك التقلبات الجوية من الظلمات والرعد والبرق فكانت هي مثار اهتمامهم، ومناط تفكيرهم؛ ولذلك جعلوا يترصدونها: ويدبرون أمورهم على وفقها، لابسين لكل حال لبوسها: سيرًا تارة، ووقوفًا تارة، واختفاءً تارة أخرى.
ذلك مثل القرآن الذي أنزله الله غيثًا تحيا به القلوب، وثنبت به ثمرات الأخلاق الزكية والأعمال الصالحة؛ ثم ابتلى فيه المؤمنين بالجهاد والصبر وجعل لهم الأيام دولًا بين السلم والحرب، وبين الغلب والنصر. فما كان حظ بعض الناس منهم إلا أن لبسوا شعاره على جلودهم دون أن يشربوا حبه في قلوبهم أو يتذوقوا ما فيه من غذاء الأرواح والعقول، بل أهمتهم أنفسهم وشغلتهم حظوظهم العاجلة؛ فحصروا كل تفكيرهم فيما قد يحيط به من مغانم يمشون إليها، أو مغارم يتقونها، أو مآزق تقفهم منه موقف الروية والانتظار، وهكذا ساروا في التدين به سيرًا متعرجًا متقلبًا مبنيًّا على قاعدة الربح والخسر، والسلامة الدنيوية.
فكانوا إذا رأوا عَرَضًا قريبًا وسفرًا قاصدًا وبرقت لهم "بروق" الأمل في الغنيمة ساروا مع المؤمنين جنبًا إلى جنب، وإذا دارت رحى الحرب وانقضت "صواعقها" منذرة بالموت والهزيمة أخذوا حذرهم وفروا من وجه العدو قائلين: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ أو رجعوا من بعض الطريق قائلين: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾. حتى إذا كانت الثالثة فلم يلمحوا من الآمال بارقة ولم يتوقعوا من الآلام صاعقة بل اشتبهت عليهم الأمور وتلبد الجو بالغيوم، فهنالك يقفون متربصين لا يتقدمون ولا يتأخرون، ولكن يلزمون