ثم رأيت كيف اختتم البيان السابق بذكر هدى الله والعلم الذي علمه لنبيه وذكر الفريق الذي يرجى إيمانهم به من أهل الكتاب، وهم الذي يتلون الكتاب حق تلاوته، أليس هذا الاختتام نفسه مطلعًا تشرف النفس منه على هذا الافتتاح؟
ثم رأيت الحديث في الدور الأول منقسمًا إلى قسمين: قسم يتحدث فيه عن ماضي اليهود، وقسم يتحدث فيه عن حاضرهم. ألا يكون من حسن التقابل أن يقسم الحديث الثاني إلى القسمين. عن ماضي المسلمين وعن حاضرهم؟
ذلك هو ما تراه فيما يلي:
بل سترى ما هو مقابلة ومشاكلة، فسيجري الكلام في القسم الأول هنا على سنن الخطاب مع بني إسرائيل، والكلام في القسم الثاني على سنن التحدث عنهم، كما جرى هنالك في القسمين سواء.
وأكبر من هذا كله أنك ترى الآيتين الكريمتين اللتين صدر بهما أول الحديث هناك قد صدر بهما أول الحديث هنا؛ ليدعوهم إلى اعتناق الحق بمثل ما دعاهم به إلى اجتناب الباطل، وليتقرر في نفس السامع من أول الأمر أن الحديث سيعود كما بدأ، ولكن في طريق يقابل ذلك الطريق، وبمعنى جديد هو عدل لذلك المعنى القديم ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ … ﴾.
وهكذا أنشأ يدعو بني إسرائيل إلى طريق السلف الصالح، لا بأسلوب الأمر والتحريض الذي جرب من قبل فلم ينجع فيهم، بل بأسلوب قصصي جذاب يعرض فيه ذلك التاريخ المجيد لإبراهيم ﵇ وأبنائه وأحفاده في العصور الذهبية التي لا يختلف أحد من أهل الكتاب ولا المشركين في تعظيمهما ومحبتها ومحبة الانتساب إليها.