للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في جملتها مناجات من الله للنبي والمؤمنين في خاصة شأنهم وفيما يعنيهم من أمر دينهم، ولكنه جعل لهذه النجوى طرفين، لوَّن كل طرف منها بلون المقصد الذي يتصل به، فالتقى المقصدان فيها على أمر قد قدر.

ألم تر كيف بدأها بأن قص على المؤمنين مقالة أعدائهم في بعض حقائق الإسلام، وعمد إلى هذه الحقائق التي تماروا فيها، فجعل يمسح غبار الشبهة عن وجهها حتى جلاها بيضاء للناظرين. فكانت هذه البداية كما ترى نهاية لتلك المعارك الطويلة التي حورب فيها الباطل في كل ميدان.

ثم رأيت كيف ساق الحديث فجعل يثبت أقدام المؤمنين على تلك الحقائق النظرية والعملية، ويحرضهم على الاستمساك بها في غير ما آية … أفلا تكون هذه النهاية بداية لمقصد جديد بعدها يرد به هداية المؤمنين إلى تعاليم الإسلام مفصلة.

بلى … إن ذلك هو ما توحي به سياقة هذه النجوى المتواصلة، التي مدت في خطاب المؤمنين مدًّا. وحولت مجرى الحديث معهم رويدًا رويدًا، حتى صار كل من ألقى سمعه إليها مليًّا، يسمع في طيها نداءً خفيًّا: أن فرغنا اليوم من الأعداء جهادًا، وأقبلنا على الأولياء تعليمًا وإرشادًا، وأن قد طوينا كتاب الفجار، وجئنا نفتتح كتاب الأبرار، وأن هذه الصفحة الأخيرة من دعوة بني إسرائيل لم تك إلا طليعة من كتائب الحق، تنبئ أن سيتلوها جيشه الجرار، أو شعاعة من فجر الهدى سيتحول الزمان بها من سواد الليل إلى بياض النهار، ألا ترى الميدان قد أصبح خاليًا من تلك الأشباح الإسرائيلية التي كانت تتراءى لك في ظلام الباطل تهاجمها وتهاجمك. هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا؟

أو لا ترى هذه الأشعة الأولى من شمس الشريعة الإسلامية قد انبعثت يسوق بعضها بعضًا. أصول جامعة نظرية، تتبعها طائفة من فروعها الكبرى العملية … ألم يأنِ لسائر الفروع أن تجيء من خلفها حتى تبلغ الشمس ضحاها.

هكذا تفتحت الآذان لسماع شرائع الإسلام مفصلة. فلو أنها أقبلت علينا الآن عدًّا وسردًا ما حسبنا الحديث عنها حديثًا مقتضبًا.

لكن القرآن، وقد وضع على أدق الموازين البيانية وأرفقها بحاجات النفوس، لم يشأ أن يهجم على المقصود مكتفيًا بهذا التمهيد بل أراد أن يقدم بين يديه شقة تستجم النفس فيها من ذلك السفر البعيد .. وتأخذ أهبتها لرحلة أخرى إلى ذلك المقصد الجديد .. فانظر فيما يلي:

<<  <   >  >>