ولا سيما وهذه الأماكن المقدسة كانت يومئذ مباءة للأصنام والأنصاب من حولها ومن فوقها؛ فوجب ألا يترك هذا التعظيم دون تحديد وتقييد، وألا نترك هذه الخلجات النفسية دون دفع وإبعاد، حتى لا يبقى شك في أن قيام المصلين عند مقام إبراهيم وتوجيه وجوههم نحو الكعبة، وتمسح الطائفتين بأركانها، وطواف الحجاج والمعتمرين بين الصفا والمروة، كل أولئك لا يقصد به الإسلام توجيه القلوب إلى هذه الأحجار والآثار؛ تزلفًا بعبادتها أو رجاء لرحمتها أو طلبًا لشفاعتها، وإنما يقصد تعظيم الإله الحق وامتثال أمره بعبادته في مواطن رحمته ومظان بركته التي تنزلت فيها على عباده الصالحين من قبل، ثم تجديد ذكرى أولئك الصالحين في النفوس، وتمكين محبتهم في القلوب، باقتفاء آثارهم، والتأسي بحركاتهم وسكناتهم، حتى يتصل حاضر الأمة بماضيها، وحتى تنتظم منها أمة واحدة تدور حول محور واحد، وتتجه إلى مقصد واحد هو أعلى المقاصد وأسماها ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أتدرون من هو … ؟ إنه ليس الكعبة وليس الصفا والمروة، ليس إبراهيم ولا مقام إبراهيم، ولكنه ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ الذي وسع كل شيء رحمة ونعمة ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ........... لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ والذي بيده القوة كلها والبأس كله: لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾.
هذا من جانب المقصد الذي وقع الفراغ منه.
وأما من جانب المقصد الذي أقبلنا عليه فإن هذه الخطوة كانت أساسًا وتقدمة لا بد منها قبل الشروع في تفصيل الأحكام العملية، لتكون توجيهًا للأنظار إلى الناحية التي ينبغي أن يتلقى منها الخطاب في شأن تلك الأحكام. ذلك أن المرء إذا عرف له سيدًا واحدًا وأسلم وجهه إليه وجب ألا يصدر إلا عن أمره ولا يأخذ التشريع إلا من