ثم ينساق الحديث من فضيلة التضحية والإيثار، التي هي أسمى الفضائل الاجتماعية، إلى رذيلة الجشع والاستئثار، التي هي في الطرف المقابل، أحط أنواع المعاملات البشرية "أعني رذيلة الربا، التي تستغل فيها حاجة الضعيف، ويتقاضى فيها المحسن ثمن المعروف الذي يبذله""٢٧٥ - ٢٧٩".
وكان هذا الاقتران بينهما في البيان إبرازًا لمدى الافتراق بين قيمتهما في حكم الضمائر الحية.
وبين هذين الطرفين المتباعدين، يقيم القرآن ميزان القسط في الحد الأوسط، جاعلًا لصاحب الحق سلطانًا في المطالبة برأس ماله كله لا ينتقص منه شيء ﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾. غير أنه يحذرنا من سوء استعمال هذا الحق بإزاء المعسرين؛ فيأمرنا أن نتخذ فيهم إحدى الحسنيين: إما الانتظار إلى الميسرة، وإما التنازل لهم نهائيًّا عن الدين. وهذه أكرم وأفضل ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ "٢٨٠ - ٢٨١".
ولما كان الطابع البارز في هذا التشريع القرآني، وهو طابع القناعة والسماحة، قد يوحي إلى النفوس شيئًا من التهاون في أمر المال، وربما مال بها إلى التفريط في حفظه وتثميره، جاءت آيتا الدَّين والرِّهان "٢٨٢ - ٢٨٣" تدفعان عن نفوسنا هذا التوهم، وتصوغان للمؤمنين دستورًا هو أدق الدساتير المدنية، في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل، تمهيدًا لإنفاقها في أحسن الوجوه .. فمن لم يجد سبيلًا إلى التوثق بوثيقة ما، ولم يبق أمامه إلا أن يكل عميله إلى ذمته وأمانته ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾.
وهكذا ختم الشطر العملي من السورة، بهذه القاعدة المثلى، التي هي أساس كل معاملة شريفة، أعني قاعدة الصدق والأمانة، جعلنا الله من أهل الصدق والأمانة … آمين.