للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أرأيت لو كانت هذه التقريعات المؤلمة صادرة عن وُجدانه، معبرة عن ندمه ووخز ضميره حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه. أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع؟ ألم يكن له في السكوت عنها ستر على نفسه، واستبقاء لحرمة آرائه؟ بلى؛ إن هذا القرآن لو كان يفيض عن وجدانه لكان يستطيع عند الحاجة أن يكتم شيئًا من ذلك الوجدان، ولو كان كاتمًا شيئًا لكتم أمثال هذه الآيات، ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ (١).

وتأمل آية الأنفال المذكورة، تجد فيها ظاهرة عجيبة، فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم، وقد بدئت بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمت بإقرارها وتطبيب النفوس بها، بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها، فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام -لو كان عن النفس مصدره- يمكن أن يصدر عنها آخره ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان؟ كلا، وإن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين لكان الثاني منهما إضرابًا عن الأول ماحيًا له، ولرجع آخر الفكر وفقًا لما جرى به العمل، فأي داع دعا إلى تصوير ذلك الخاطر الممحو وتسجيله، على ما فيه من تقريع علني بغير حق، وتنغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها حلالًا طيبة؟ إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن -ها هنا- ألبتة شخصيتين منفصلتين، وأن هذا صوت سيد يقول لعبده: لقد أسأت، ولكني عفوت عنك وأذنت لك.

وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي رفع العتاب عليها لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو أنه كان إذا ترجح بين أمرين ولم يجد فيهما إنما اختار أقربهما إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة


(١) سورة التكوير: الآية ٢٤.

<<  <   >  >>