للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أربعين سنة من عمره، ثم يطلع علينا فيما بين عشية وضحاها فيكلمنا بما لا عهد له به في سالف حياته، وربما لم يتحدث إلى أحد بحرف واحد منه قبل ذلك، ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى مما أخفاه أهل العلم في دفاترهم وقماطرهم (١). أفي مثل هذا يقول الجاهلون: إنه استوحى عقله واستلهم ضميره؟ أي منطق يسوغ أن يكون هذا الطور الجديد العلمي نتيجة طبيعية لتلك الحياة الماضية الأمية؟ إنه لا مناص في قضية العقل من أن يكون لهذا الانتقال الطفري سر آخر يلتمس خارجًا عن حدود النفس وعن دائرة المعلومات القديمة. وإن ملاحدة الجاهلية وهم أجلاف الأعراب في البادية كانوا في الجملة أصدق تعليلًا لهذه الظاهرة وأقرب فهمًا لهذا السر من ملاحدة هذا العصر، إذ لم يقولوا كما قال هؤلاء: إنه استقى هذه الأخبار من وحي نفسه، بل قالوا: إنه لا بد أن تكون قد أمليت عليه منذ يومئذ علوم جديدة، فدرس منها ما لم يكن قد درس، وتعلم ما لم يكن يعلم ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ (٢) ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ (٣).

ولقد صدقوا؛ فإنه درسها، ولكن على أستاذه الروح الأمين، واكتتبها، ولكن من صحف مكرمة مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (٤).

ذلك شأن ما في القرآن من الأنباء التاريخية، لا جدال في أن سبيلها النقل لا العقل، وأنها تجيء من خارج النفس لا من داخلها.

فأما سائر العلوم القرآنية فقد يقال: إنها من نوع ما يدرك بالعقل، فيمكن أن ينالها الذكي بالفراسة أو بالروية، وهذا كلام قد يلوح حقًّا في بادئ الرأي، ولكنه لا يلبث


(١) القماطر: جمع مفرده: القمطر، وهو ما تصان به الكتب.
(٢) سورة الأنعام: الآية ١٠٥.
(٣) سورة الفرقان: الآية ٥.
(٤) سورة يونس: الآية ١٦.

<<  <   >  >>