أما الذين لقوه بعد النبوة فقد سمع منهم وسمعوا منه. ولكنهم كانوا له سائلين وعنه آخذين، وكان هو لهم معلمًا وواعظًا ومنذرًا ومبشرًا.
وأما الذين رآهم قبل فإن لقائه إياهم لم يكن سرًّا مستورًا، بل كان معه في كل مرة شاهد: فكان عمه أبو طالب رفيقًا له حين رأى راهب الشام، وكانت زوجه خديجة رفيقة له حين لقي ورقة، فماذا سمعه هذان الرفيقان من علوم الأستاذين؟ هلا حدثنا التاريخ بخبر ما جرى؟ وما له لا يحدثنا هذا الحديث العَجَب الذي جمع في تلك اللحظة القصيرة علوم القرآن وتفاصيل أخباره فيما بين بداية العالم ونهايته!! ولماذا لم يتخذ خصومه من هذه الحجة الواضحة سلاحًا قاطعًا لحجته مع شدة سعيهم في هدم دعواه، والتجائهم لأوهن الشبهات في تكذيبه، وقد كان هذا السلاح أقرب إليهم، وكان وحده أمضى في إبطال أمره من كل ما لجأوا إليه من مهاترة ومكابرة.
إن سكوت التاريخ عن ذلك كله حجة كافية على عدم وجوده؛ لأنه ليس من الهنات الهينات التي يتغاضى عنها الناس الواقفون لهذا الأمر بالمرصاد.
على أن التاريخ لم يسكت، بل نبأنا بما كان من أمر الرجلين: فقد حدثنا عن راهب الشام أنه لما رأى هذا الغلام رأى فيه من سيما النبوة الأخيرة وحليتها في الكتب الماضية ما أنطقه بتبشير عمه قائلًا: إن هذا الغلام سيكون له شأن عظيم. وحدثنا عن ورقة أنه لما سمع ما قصه عليه النبي من صفة الوحي وجد فيها من خصائص الناموس الذي نزل على موسى ما جعله يعترف بنبوته ويتمنى أن يعيش حتى يكون من أنصاره.
فمن عرف للتاريخ حرمته وآمن بوقائعه كما هي، كانت هذه الوقائع حجة لنا عليه، ومن لم يستحِ أن يزيد في التاريخ حرفًا من عنده فيقول: إن محمدًا ضم السماع إلى اللقاء فليتقول ما يشاء، وليعلم أنه سوف يُخرج لنا بهذه الزيادة تاريخًا متناقضًا