للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنهم حين خرجوا يلتمسون واحدًا من البشر يمكن أن ينسب إليه هذا العلم المحمدي لم يستطيعوا أن يفترضوا له مصدرًا تعليميًّا خارج حدود قريته، بل كان آخر جُهد بذلوه من حيلتهم وآخر سهم رموه من كنانتهم أن جاءوا من بين ظهرانيهم بهذا الغلام الذي عرفت خبره. فيا ليت شعري لو كان هذا الغلام أن يكون مرجعًا علميًّا كما أرادوا أن يصفوه، فما الذي منعهم أن يأخذوا عنه كما أخذ صاحبهم؟ وبذلك كانوا يستريحون من عنائه ويداوونه من جنس دائه، بل ما منع ذلك الغلام أن يبدي للعالم صفحته فينال في التاريخ شرف الأستاذية. أو يتولى بنفسه تلك القيادة العالمية؟ ويا ليت شعري لماذا لم ينسبوا تلك العلوم الغريبة عنهم إلى أهلها الموسومين بها من الربانين والأحبار في المدينة أو من القسيسين والرهبان في الشام، أولئك الذين قضوا أعمارهم في دراستها وتعليمها؟ أليس ذلك -لو كان ممكنًا أو شبيهًا بالممكن- كان هو أحسن تلفيقًا وأجود سبكًا وأدنى إلى الرواج وأبعد عن الإحالة من نسبتها إلى حداد مكة؟ أم ضاقت بهم الأرض فلم يجدوا أحدًا أمثل منه ولا أعلم بالدين والتاريخ؟ تالله لولا أنهم وجدوا باب التعليم الخارجي أمنع سدًّا من سائر الأبواب وأدخل منها في معنى المكابرة التي لا تروج لما ضيَّقوا على أنفسهم دائرة الاتهام حتى تورطوا في هذا المحال المكشوف وافتضحوا بهذه المقالة الشوهاء.

هؤلاء قوم محمد وهم كانوا أحرص الناس على خصومته، وأدرى الناس بأسفاره ورحلاته، وأحصاهم لحركاته وسكناته، قد عجزوا كما ترى أن يعقدوا صلة علمية بينه وبين أهل العلم في عصره، فما للملحدين اليوم وقد مضى نيف وثلاثة عشر قرنًا انفضت فيها سوق الحوادث، وجفت الأقلام، وطُويت الصحف، لا يزالون يبحثون عن تلك الصلة في قمامات التاريخ، وفي الناحية التي أنف قومه أن ينبشوها؟

ألا فليريحوا أنفسهم من عناء البحث، فقد كفتهم قريش مئونته، وليشتغلوا بغير هذه

<<  <   >  >>