...إن الفارق بين طريقة الصحابة وطريقة أرباب صناعة الفقه، هي أن الصحابة كانوا يضعون النص أمامهم، فما يتبادر إلى أذهانهم من معانيه بمقتضى اللغة العربية، إضافةً إلى درايتهم وخبرتهم بمرامي النصوص التي عاشوا أجواءها ودلالاتها، يأخذونه ببساطة ودون تصنُّع. أما أرباب الصناعة الفقهية، فإنهم يضعون القواعد الأصولية المختلفة أمامهم أولا مع جميع تفريعاتها وتعقيداتها وتفصيلاتها، ثم يُخضعون النص لهذه القواعد، فتخرج منه معان كثيرة متشعبة بقدر هذه التفريعات والتشعُّبات، وهنا يقع الخلاف الكبير بينهم، كلٌّ يتمسَّك بالمعنى الذي فهمه، وبالحكم الذي استنبطه بحسب ما وضعه أمامَه من قواعد تفصيلية خاصةٍ به، ويُجْهِد نفسه في الدفاع عنه والمنافحة عنه انتصاراً لمذهب إِمامِه، حتى غدا الفقه أخيراً معرضاً واسعاً متنوعاً للأحكام المختلطة، الصحيحة والضعيفة والشاذة، ما أن يطَّلع عليها القارئ حتى يُصدَع رأسُه بهذا الكم الهائل من الآراء في كل مسألة فقهية. ومن أحبًّ أن يقف على أمثلةٍ مما أقول، فما عليه إلا أن يراجع الآراء الفقهية في المسائل التالية: ليلة القدر متى هي؟ والنوم هل هو ناقض للوضوء؟ والصلاة الوسطى ما هي؟ وتجدون الخلافات الواسعةَ والهائلةَ في هذه المسائل وفي غيرها في كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلاني، وشرح صحيح مسلم للنووي.