[السؤال (٩) : فضيلة الشيخ، نريد زيادة تفصيل في القسم الأخيرة من أقسام التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات؟]
الجواب: الحقيقة أن هذا النوع من التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات، ينبغي أن يبسط فيه القول لأنه مهم، ولأن الأمة الإسلامية تفرقت فيه تفرقاً كثيراً، وهدى الله الذين آمنوا من السلف وأتباعهم لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
تقدم لنا قاعدة في هذا النوع، وهو أنه يجب علينا أن نثبت ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات، على وجه الحقيقة، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وذكرنا لهذا أمثلة في أسماء الله عز وجل، ومثالاً في صفة من صفاته وهي صفة اليدين، وذكرنا أنه يجب فيما يتعلق بالأسماء، أن نثبت ما سمى الله به نفسه اسماً لله، وأن نثبت ما تضمنه من صفة وما تضمنه من حكم، وهو الأثر الذي تقتضيه هذه الصفة، وذكرنا أنه يجب علينا أن نؤمن بما وصف الله به نفسه من الصفات على وجه الحقيقة أيضاً، وذكرناً مثالاً وهو اليدان، حيث أثبت الله لنفسه يدين اثنتين، وهما ثابتتان لله على وجه الحقيقة، لكن لا يجوز لنا أن نمثل هاتين اليدين بأيدي المخلوقين، ولا أن نتصور بقلوبنا أو ننطق بألسنتنا عن كيفية هاتين اليدين، لأن التمثيل تكذيب لقول الله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: ١١) ، وعصيان لله، لقوله تعالى: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) (النحل: ٧٤) .
وأما التكييف فهو وقوع فيما حرم الله ونهى عنه، لأن الله يقول: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: ٣٣) ، (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء: ٣٦) .
نزيد مثالاً ثانياً في الصفات، وهو استواء الله على تعالى على عرشه، فإن الله تعالى أثبت لنفسه أنه استوى على عرشه في سبعة مواضع من كتابه، كلها أتت بلفظ " استوى"، وإذا رجعنا إلى الاستواء في اللغة العربية وجدناه إذا عدي بعلى لا يقتضي إلا الارتفاع والعلو، فيكون معنى قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: ٥) ، وأمثالها من الآيات، معناها علا على عرشه عز وجل علوا خاصا غير العلو العام على جميع الأكوان وهذا العلو ثابت لله تعالى على وجه الحقيقة، فهو عال على عرشه علوا يليق به عز وجل لا يشبه علو الإنسان على السرير، ولا علوه على الأنعام ولا علوه على الفلك، الذي ذكره الله في قوله: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) (١٢) (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (١٣) (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) (الزخرف ١٢-١٤) ، فاستواء المخلوق على شيء لا يمكن أن يماثله استواء على عرشه، لأنه الله، ليس كمثله شيء في جميع نعوته.
وقد أخطأ خطأ عظيماً من قال: إن معنى " استوى على العرش" استولى على العرش، لأن هذا تحريف للكلم عن مواضعه، ومخالف لما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومستلزم للوازم باطلة، لا يمكن للمؤمن أن يتفوه بها بالنسبة إلى الله عز جل، فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية بلا شك، كما قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: ٣) ، وقال تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (١٩٣) (عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (١٩٤) (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: ١٩٣-١٩٥) ، ومقتضى هذه الصيغة " استوى على كذا" في اللغة العربية: العلو والاستقرار، بل هو معناها المطابق للفظ.
فمعنى " استوى على العرش" أي علا عليه علو خاصا يليق بجلاله وعظمته، فإذا فسرناه باستولى فقد حرفنا الكلم عن مواضعه، حيث أخرجنا هذا المعنى الذي تدل عليه اللغة - لغة القرآن وهو العلو إلى معنى الاستيلاء، ثم إن السلف والتابعين لهم بإحسان مجمعون على هذا المعنى، إذ لم يأت عنهم حرف واحد في تفسيره بخلاف ذلك. وإذا جاء اللفظ في القرآن والسنة ولم يرد عن السلف ما يخالف ظاهره، أو لم يرد عن السلف تفسيره بما يخالف ظاهره، فالأصل أنهم أبقوه على ظاهره واعتقدوا ما يدل عليه، ولهذا لو قال لنا قائل: هل عندكم لفظ صريح بأن السلف فسروا استوى بمنى علا، قلنا: نعم ورد ذلك عن السلف، وعلى فرض أن لا يكون ورد عنهم صريحاً، فإن الأصل فيما يدل عليه اللفظ في القرآن الكريم والسنة والنبوية، أنه باق على ما تقتضيه اللغة العربية من المعنى.
أما اللوازم الباطلة التي تلزم على تفسيرنا الاستواء بمعنى الاستيلاء، فإننا إذا تدبرنا قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف: ٥٤) ، وقلنا "استوى" بمعنى "استولى" لزم من ذلك أن يكون العرش قبل خلق السموات والأرض ليس ملكاً لله عز وجل، لأنه قال: خلق ثم استوى، فإذا قلت: أي " ثم استولى" لزم من ذلك أن يكون العرش ليس ملكاً لله سبحانه وتعالى قبل خلق السموات والأرض، ولا حين خلق السموات والأرض، وأيضاً يلزم منه أن يصح التعبير بقولنا: "إن الله استوى على الأرض، واستوى على أي شيء من مخلوقاته - نقدره أو نقوله - وهذا لا شك أنه معنى باطل لا يليق بالله عز وجل، فتبين بهذا أن تفسير الاستواء بالاستيلاء فيه محظوران:
أحدهما: تحريف الكلم عن مواضعه.
والثاني: أن يتصف الله عز وجل بما لا يليق به.
الواجب تجاه كل نوع من أنواع التوحيد