للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إخواني من أولي العزم من الرّسل صبروا على ما هو أشدّ من هذا، فمضوا على حالهم، فقدموا على ربّهم، فأكرم مابهم، وأجزل ثوابهم، فأجدني أستحيي إن ترفّهت في معيشتي أن يقصّربي ...

وهذا من إيثاره صلّى الله عليه وسلم الزّهد، وإظهاره لغنى القلب، ومحبّة تركه لها.

ثم بيّن أنّه مقام عظيم سبق به الرسل عليهم الصّلاة والسّلام، فجرى على طريقهم، فقال: (إخواني من أولي العزم من الرّسل) ؛ وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم الصّلاة والسّلام، على خلاف فيهم. وقد نظم هؤلاء الخمسة بعضهم فقال:

محمّد إبراهيم موسى كليمه ... فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم

(صبروا على ما هو أشدّ من هذا) ؛ أي: ممّا أنا صابر عليه، لما روي أنّ بعضهم مات من الجوع، وبعضهم من شدّة أذى القمل، وبعضهم من كثرة الجراحات، وشدة الأمراض والعاهات، وقد خصّني الله تعالى فيما حثّني وحضّني على الاقتداء بهم، بقوله سبحانه وتعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [٣٥/ الأحقاف] ؛ كذا قال القاري في «شرح الشفا» .

(فمضوا) أي: استمرّوا (على حالهم) الّتي كانوا عليها، راضين بقضاء الله تعالى لهم، صابرين على بلائه، شاكرين على نعمائه؛ إلى أن ماتوا، ولم يطلبوا من ربّهم السّعة، ولا دفع المضرّة؛ نظرا إلى كمال حسن مالهم.

(فقدموا على ربّهم) لاقوه (فأكرم مابهم) أي: أكرمهم الله تعالى في مرجعهم إليه، يقال: آب يؤوب إذا رجع، فهو اسم مكان أو مصدر ميمي (وأجزل ثوابهم) ؛ أي: كثّر لهم العطاء والجزاء في دار المقام، (فأجدني أستحيي) - بيائين، وفي نسخة من «الشفاء» بياء واحدة؛ أي: من الله تعالى عند لقائه، (إن ترفّهت) أي: إن تنعّمت (في معيشتي) ، وقد كان الله تعالى خيّره صلّى الله عليه وسلّم قبيل موته؛ بين الخلد في الدنيا ولقائه؟ فاختار لقاءه (أن يقصّر بي) - بتشديد الصاد

<<  <  ج: ص:  >  >>