للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من هنا يبرز احترام القرآن للعقل ودوام مخاطبته وإقناعه بأهمية الفكرة المطروحة. والقارئ المُتدبر يجد المولى سبحانه وتعالى – وهو الكبير المتعال – يُخاطب عقولنا، ويُبيِّن لنا الكثير من الأمور التي من شأنها أن تُقنعنا بما يُريده منَّا، بل إنه سبحانه وتعالى يدعونا في كتابه إلى استخدام عقولنا والتفكر في كلامه، كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: ٤].

ويرُد القرآن على ادعاء النصارى بألوهية المسيح عليه السلام أو أمه، فيقول تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: ٧٥].

ومن وسائل الإقناع التي يستخدمها القرآن: ضرب الأمثال، والتي تُعتبر من أهم وسائل تبسيط المعلومة وربط الذهن بها، فالمعلم القدير – كما يقول جودت سعيد – هو الذي يُقدم العلم للناس في أمثلة تجعلهم يقتربون من الموضوع أكثر (١).

قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: ٢٧].

ومن أمثلة القرآن ذلك المثال الذي يُبيِّن خطورة الرياء، وعدم الإخلاص لله، وكيف سيكون حال صاحبه وهو يرى جهده وتعبه قد ضاع، هو أحوج ما يكون إليه.

يقول تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: ٢٦٦].

ومن وسائل الإقناع كذلك:

استخدام الطريقة الاستنتاجية بطرح الأسئلة وترك الإجابة للعقل ليصل إلى المعنى المراد من ورائها، مثل قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد: ٣٣].

وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: ٢٨].

ثانيا: تكرار الموضوعات:

نعم الاقتناع بالفكرة هو الخطوة الأولى في طريق التغيير حيث تنتقل هذه الفكرة من العقل المُدرك إلى اللاشعور، ولكنها لن تستقر فيه إلا إذا حدث لها تكرار وتكرار.

ولعلنا جميعا نلحظ ذلك، فعندما يحدث اقتناع بفكرة ما في لحظة من اللحظات تجد الواحد منَّا كثيرا ما يُعبر عن هذا الاقتناع بعمل من الأعمال، كمن قرأ أو سمع عن أهمية مساعدة المحتاجين ثم وجد أمامه محتاجا، ففي الغالب أنه سيتصدق عليه ولو بالقليل، هذا الفعل قد لا يتكرر من صاحبه ثانية إلا إذا استمر التذكير بأهميته بين الفينة والأخرى.

من هنا تبرز قيمة التكرار كوسيلة من وسائل بناء اليقين الصحيح والتي يستخدمها القرآن، فالمتتبع للموضوعات المطروحة فيه يجدها متكررة ومتشابهة، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: ٢٣].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: ٥٠].

وصرَّفناه أي: كررناه بأساليب مختلفة ..

ومن فوائد التكرار كذلك أنه يجعل القارئ في حالة دائمة من التذكر واليقظة.


(١) كن كابن آدم، ص (٨٥).

<<  <   >  >>