ومن كتاب البحر: ينبغي لراكبه أن يكون ممتلئاً من الطعام عند ركوبه، فإذا حصل له القيء كان في معدته ما يستخرجه، ويستحب له مسح ظاهر الأنف وباطنه بالإسْفيداج، وشمَّ الصندل والماورد، واستعمال شراب الحِصْرِم.
ثم لم نزل كذلك، نجوب فيافي المهالك، حتى نظر الباري تعالى إلينا بعين الرحمة، وكشف عنّا بمنِّه غمائم الغُمَّة، ونحن في موج يرفع ويخفض ويجرجرنا إلى ما يُسقم ويُمرض، والريح تضرب الشراع وتمزق القلاع:
فيا ليت ما بيني وبين أحبتي ... من البعد ما بيني وبين المراجعِ
فأقمنا على الماءِ تجاه جبال رودس أياماً لوقوف الريح:
ونحن في مركب كالنون يذكرنا ... موسى بن عمران في يم بتابوتِ
ما كان أغناك عن بحر وعن خطرٍ ... وبُعْد أهل وتغريب وتشتيتِ
قد شابت رؤوس الجبال واكتست عمائم الثلج، وخاضت آراء الرجال في الهَرْج والمَرْج، وتمزقت بالأهوية القلوب والأستار، والبارق يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.
هذي خُفوق البرق والقلب الذي ... ضُمَّت عليه جوانحي خَفَقَان
ولما أمسينا ذات ليلة هبت علينا نسمة سارت بها الركبان، فوصلنا إلى رودس أقل ما كان يتوقع، بل ربما كان ذلك في الواقع:
كعرشِ بلقيس لما جاء مُختطَفاً ... إلى سليمان يسعى من رسوم سبا
فنزلنا من تلك المينا الأمينة إلى هاتيك المدينة، وقد أسفر الصباح عن اليوم الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، فإذا هي بلدة لطيفة الشمائل وريفة المنازل، ذات أسوار مانعة وأشجار يانعة، وطيور مختلفة وقصور مؤتلفة، إلا أن ماءها أثقل من الرصاص، والإقامة بها تقوم مقام القصاص، وقد قامت بها سوق الفسوق