وفارقت حتى لا أراع من النوى ... وإن غاب جيران عليّ كِرامُ
وقد جعلتُ نفسي على اليأسِ تنطوي ... وعيني على هجرِ الصَديق تَنامُ
فواهاً لزمن الاجتماع ما كان أغضّه، وآهاً من انصداع الشمل فما أمضّه، فيا لتلك المنازل التي سمت أن تسامى، ويا لهاتيك المسامرة التي بها هواطل السرور تهامى.
فارقتها لا عن رضى، وهجرتها ... لا عن قلى، ورحلت لا متخيرا
أسعى لرزقٍ في البلاد مشتتٍ ... ومن العجائبِ أن يكون مقتّرا
وأصون وجه مدائحي متعففاً ... وأكفُّ ذيل مطامعي متستّرا
لا عيشتي تصفو ولا رسم الهوى ... يعفو، ولا جفني يصافحُه الكرى
فسرت مع بعض الإخوان، من ذوي المروءة والإحسان، صحبة الركب المصري، والعيون بالمدامع تذري، لبعاد تلك المنازل، وفراق هاتيك المناهل.
فمنّي إليها كلَ وقت تحية ... وساكنها في كلِ آنٍ له السنا
ثم لم نزل سائرين في المنازل الحرمية الشريفة، والمناهل السعيدة المنيفة، والمقادير تقودنا كيف جرى القلم، وأنا المنقاد إلى حيث المشقة والألم.
أمامي من الحرمان جيشُ عرمرمٍ ... ومنه ورائي جحفلٌ حين أركبُ
فلو تهتُ في البيداء والليل مسبلٌ ... عليّ جناحيه لما لاحَ كوكبُ
ومازلنا كذلك نجوب الفيافي والمسالك، إلى أن وصلنا ينبع النخل، وروينا من مياهه التي هي كمُجاج النحل، ولكن بعد أن تجرعنا المرامر، وكادت تنشق منا المرائر، مما قاسيناه في النقب من ضيق الطريق، وازدحم القطر الذي فرق بين الرفيق، إلى غير ذلك من الأوعار، ومصادمة الأحجار، في ليل مظلم، وهول مؤلم، ولسان الحال ينادي في تلك الشعوب والبوادي:
فاصبر لها غير محتال ولا ضجر ... في حادث الدهر ما يغنى عن الحيل
[ينبع النخل]
(فائدة) يَنْبُع: بصيغة مضارع نبع الماء، إذا ظهر، من نواحي المدينة المنورة على