أربعة أيام منها، سميت بذلك لكثرة ينابيعها وعدتها مائة وسبعون عيناً، ولمّا نظر إلى جبالها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: لقد وضعت على نقب من الماء عظيم. وأقطعه النبي صلى الله عليه وسلم العشيرة من الينبع، ثم اشترى قطعة أخرى، وكانت بها أمواله عيوناً تصدق بها. ومن محاسن الفيومي:
إن كان قد قضي الفراق وصدّني ... عنكم حجاز من نوى لا يرفعُ
فأنا الذي دمعي العقيق وناظري ... يا بدر بعد البعد عنكم ينبعُ
والنقب مضيق كثير الأوعار، يسلكه الركب المصري في أيامه، وهو على نصف مرحلة من خيف بني عمرو، وهذا الخيف يشتمل على عيون جارية، ونخيل باسقة، ومنازل عامرة بسكانها. (ولنرجع إلى ما كنا بصدده) فأقمنا بينبع المحروسة، ومرابعها البهية المأنوسة، ثلاثة أيام، نهارنا تحت ظل النخيل، وليلنا في مسامرة الصديق والخليل، وكان ذلك آخر عهدي بالمنازل التي بها كلّ قصدي.
وكان أول عهد العينِ منذ نأت ... بالدمعِ آخر عهدِ القلبِ بالجَلَد
ولما كان وقت العصر من اليوم الثالث، الذي هو آخر العهد بأيام الثالث، وأوله بالليالي العوابث، زعق نفير الحاج، وأخذ الركب في الحركة والهياج، فلحق العشاق من ألم النوى لمفارقة الحجاز، ما أجرى دمعهم رملاً على ذلك الصعيد الطيب، وأخرجهم من الحقيقة إلى المجاز، ثم في أقل من نظر محب إلى حبيبه، أو شكوى عليل إلى طبيبه، حَمّل الركب وسار، ولم يبق له أثر في الدار.
كأنَّما حجلٌ كانت بسفح ربى ... فرّت كأنَّهم بالسفحِ ما كانوا
فارتحلنا في تلك الساعة البهية، متوجهين إلى نحو الديار المصرية، فقاسينا في السفر ما لا يطاق، واحتملنا من نخع النعم ما لزورته حمل المشتاق: